الأربعاء، 8 مايو 2013

موبي ديك



قبل أربع سنوات، اشتريتُ من إحدى مكتبات أوتاوا نسختي الخاصة من رواية ميلفيل الشهيرة موبي ديك. كانت نسخة فاخرة، التجليد سميك، و الصفحات مزينة برسومات روكويل كينت Rockwell Kent ، ذاك الرسام الأمريكي الذي ترك بصمته الواضحة في تخيلنا للقبطان إيهاب و الحوت الأبيض و إسماعيل و كويكويك. لم تكن تلك النسخة هي الأولى التي ابتاعها للرواية الشهيرة، فلقد سبق أن اشتريت الترجمة العربية بواسطة الدكتور إحسان عباس قبل خمس عشرة سنة من أحد معارض الكتاب بالرياض غير أني لم أقرأها. كما سبق أن اشتريت نسخة انجليزية رخيصة أظنها كانت بخمسة ريالات غير أني لم أقرأها أيضاً. لم أكن في ذلك الوقت جاهزا لغويا و لا معرفيا كي أقرأ الرواية و أعطيها حقها، تماماً كما كان تشيخوف يؤجل قراءة الجريمة و العقاب حتى يصبح جاهزا لها. كنتُ قد سمعتُ بوعورة الرواية و امتلائها بفقرات التحويت و المعلومات الموسوعية التي لا تخدم الحبكة، إلا أني أيضا كنتُ أدرك أهمية الرواية و قيمتها في التراث العالمي و الأمريكي بشكل خاص. لقد قال أحدهم أن موبي ديك لم تكن لتكتب إلا في أمريكا و في القرن التاسع عشر تحديداً. أما البروفيسور هارولد بلوم فلقد قال: "إذا كان هاملت و دون كيخوته هما من يمثلان الهوية الأوروبية، فإن والت ويتمان و القبطان إيهاب -بلا شك- هما من يمثلان الهوية الأمريكية."

واحدة من الأفكار التي كانت تسحرني هي الآتي: أن سفينة الباقوطة Pecqoud ما زالت راسية على ميناء نينتاكيت، تنتظرني، منذ أن كتب ميلفيل روايته في القرن التاسع عشر، رغم أنها أبحرت ملايين المرات من قبل و غرقت وسط المحيط، إلا أنها تنتظر كل قارئ جديد على ميناء نينتاكيت، و بمجرد أن يفتح ذلك القارئ غلاف الكتاب سوف تبحر للمرة الأولى معه، و سوف تطارد موبي ديك، و سوف تغرق في المحيط في الأخير. هذه هي ميزة هذا الكتاب، إنها رحلة، تنتظرك، و كما أن الواحد منا يتكلف شططا كي يختار المركب الأجود الذي سيقله، الأحرى بنا إذن أن نختار الكتاب الأفضل الذي سنبحر فيه خلف موبي ديك. لهذا السبب- عندما رأيت نسخة الـ Modern Library قبل سنتين برسوماتها الجميلة و تجليدها الفاخر قلت لنفسي: "إذا كنتُ سأقرأ الرواية أخيرا فلا بدّ أن أقرأها في هذه النسخة." لهذا السبب أيضا أنصح كل من يجيد اللغة الإنجليزية أن يقرأ الرواية بلغتها الأم بدل اللجوء إلى الترجمة العربية. 

الكل يعرف شيئاً عن هذه الرواية. الكل يعرف أنها تبدأ بتلك العبارة الشهيرة : "نادوني بإسماعيل Call me Ishmael." الكل يعرف أن بطلها هو القبطان إيهاب، ذلك القبطان المجنون الذي يبحر خلف الحوت الذي قضم رجله، موبي ديك، و الكل يعرف أن هذه الرحلة محكومة بالدمار. الكل أيضاً يعرف أن الأمور ليست كما تبدو عليه، و أن الحوت رمز لشيئ ما، و أن النقاد أشبعوا هذا الشيء درسا و اقتراحاً و تنظيراً إلى أن قال أحد المعلقين هازلاً: "لا تقل أبداً أي شيء عن أي كتاب يمكن لرجل متزن أن يقوله. على سبيل المثال، افترض أنك تدرس موبي ديك. أي شخص متزن سوف يقول أن موبي ديك هو ذاك الحوت الأبيض الكبير، إذ أن شخصيات الرواية تسميه الحوت الأبيض الكبير ما يقارب الإحدى عشرة ألف مرة. و لذا، في بحث تخرجك يجب أن تقول أن موبي ديك هو في الحقيقية جمهورية إيرلندا. البروفيسور الذي يشرف على رسالتك سوف يعتقد أنك بالغ العبقرية."



ضحكت كثيراً عندما قرأت التعليق السابق، و لكن الأمور ليست بهذا التعقيد و لا بهذا الاستغلاق، لقد كان ميلفيل واضحاً و مباشرا عندما تحدث بلسان القبطان إيهاب عن ماذا يعني له الحوت. هذا الوضوح و هذه المباشرة هما مزيتان أحمدهما لميلفيل و أعدهما شرطا أساسيا في تمييز المؤلف الجيد من السيء: المؤلف الجيد يحمل فكرة واضحة وعميقة و يريد أن ينقلها إلى القارئ، المؤلف السيء يحس أنه يحمل فكرة ما و يقوم بالتعمية على هذه الفكرة لأنه لا يستطيع أن يسيطر عليها أو أن يتبينها. يقول هيرمان ميلفيل على لسان القبطان إيهاب متحدثا عن الحوت الأبيض في الفصل الأكثر إثارة The Quarter-Deck: "اسمع و لمرة ثانية،-تلك هي الطبقة السفلى المختبئة. كل الأشياء المرئية -أيها الرجل- لا تعدو أن تكون قناعا من الورق المقوّى. و لكن في كل حادثة- وسط الحدث المُعاش، الفعلة اليقينية- ها هنالك شيء غير معلوم و لكنه مُفكِر مُدبِّر، إنه يخفي قالب ملامحه و يشكلها خلف ذلك القناع الغير عاقل. لو أراد الرجل أن يضرب، فليضرب عبر القناع! كيف للسجين أن ينفذ إلى الخارج عدا أن يرتمي عبر الجدار؟ بالنسبة لي، الحوت الأبيض هو ذاك الجدار، دُفع قريباً من وجهي. أحيانا أفكر أنه لا يوجد شيء وراءه. و لكن ها هنالك كفاية. إنه يرهقني، يضع فوقي الأحمال، أرى فيه قوةً شنيعة مُفرطة، إضافةً إلى حقد هائل ينفخ فيه. ذاك الشيء الغامض هو ما أكره، و سواء أكان الحوت الأبيض عاملاً أم أساساً، سوف أصبُ عليه جام غضبي."




القبطان إيهاب هو أكثر شخصية مهرطقة Blasphemous في تاريخ الأدب. لا يتحدث ميلفيل عن قناعات بطله الدينية بطريقة مباشرة، لا ندري هل هو ينكر الإله أم يؤمن به، هل هو يؤمن بإله واحد أم بآلهة مختلفة. عندما يريد أن يوجه لعنة إلى السماء يقوم بتوجيه اللعنة إلى (الآلهة)، هكذا، بصيغتها الجمع الكلاسيكية اليونانية، هو لا يؤمن بها يقينا، و لكنه يحتاج إليها كي تكون هدفا للعناته. كتبتُ مؤخراً قصة بعنوان "اختفاء الحاكم بأمر الله" و كم كانت دهشتي كبيرة حينما تبينت الملامح المشتركة بين قصتي و رواية ميلفيل. كلا النصين يستخدمان قصة النبي يونس كركيزة لإيصال رسالتيهما، هذا ما حسبته الرابط الوحيد الذي يربطهما، و لكني عندما استكملت الرواية إذا بي ألمح شبها كبيرا بين الحاكم الذي اختلقت و بين القبطان إيهاب. الحاكم في قصتي مشغول بقضية النسق و الفوضى و أهميتهما بالنسبة لإيمانه، و هذه مسألة أساسية في رحلة إيهاب الميتافيزقية خلف الحوت الأبيض. في وسط الرواية، في فصل غير مشهور بعنوان "أبو الهول The Sphynx" يوجه القبطان إيهاب خطابه إلى رأس حوت عنبر عُلق على طرف السفينة فيقول: "لقد مضيتَ إلى حيثُ لا جرس و لا غواص يمكن أن يمضي، لقد نِمتَ إلى جانب بحارة غرقى عديدين كانت أمهاتهم على استعداد لدفع حياتهنّ من أجل أن يوارين جثمانهم. لقد رأيتَ العاشِقين يقفزان و هما يطوقان بعضهما من السفينة المشتعلة، قلبا لصقَ قلب، غاصا تحت الموجة المبتهجة، وفاءاُ بحق بعضهما، من بعد أن تنكرت السماء لهما. لقد رأيتَ البحار المغدور يُلقى بواسطة القراصنة من مقدمة سفينة الليل، لساعات أخذ يغوص وسط ليل الحوصلة النهمة، في الوقت الذي يبحر فيه قتلته دون ضرر-- في الوقت الذي تضرب فيه البروق و العواصف سفنا مجاورة كانت ستنقل زوجا وفيا إلى ذراعي زوجته المتنظرة. آهٍ أيها الرأس! لقد رأيتَ ما من شأنه أن يقصم الكواكب و يجعل من النبي إبراهيم كافراً، و رغم ذلك لا تتفوه بحرف!"


القبطان إيهاب شخصية مفكرة قلقة، يرى الفوضى خلف وشاح النسق، ثم يكون هو نفسه ضحية لهذه الفوضى فينهش الحوت الأبيض قدمه -هكذا- بدون مبرر أو تفسير. نفسه تمتلئ حنقا و حقداً تجاه هذه الإرادة الخفية التي تحرك الكون، سواء أكانت إلها أم آلهة أم الطبيعة نفسها. هو يستطيع أن يتبين العقل المدبر غير أنه لا يراه إلا من خلف قناع الطبيعة. هو يقف عاجزاً في معركته هذه غير المتكافئة. يريد أن يسدد ضربة إلا أن خصمه غير موجود. لهذا السبب (يستخدم) القبطان إيهاب الحوت الأبيض. إن موبي ديك -الحوت الأبيض- لا يعدو أن يكون رمزا جسمانيا ضرورياً كي يستطيع القبطان إيهاب تسديد طعنته إلى تلك الإرادة المدبرة. لهذا السبب أعدُ هذه الرواية أكثر الروايات هرطقةً Blasphemous ، إنه القبطان إيهاب يريد أن يوجه طعنة إلى الله من خلال الحوت، و لهذا السبب أيضا أعتبر هذه الرواية أكثر رواية إيمانية، لأن القبطان إيهاب و البيكواد و من عليها سوف يغرقون في النهاية. 

أكثر ما يعجبني في هذه الرواية هو مخالفتها لكل ما هو معتاد. قرأت الكثير من روايات القراصنة و مغامرات البحر (جزيرة الكنز، تمرد في السفينة باونتي، ذئب البحار، القبطان بلود، ... إلخ) في كل مرة كان البحارة هم من يثورون على القبطان و يختطفون المركب و يغيرون غرض الرحلة، في موبي ديك كان القبطان هو من اختطف السفينة رغم أنف البحارة و المساعدين كي يغير غرض الرحلة و يحوله من هدفها البرئ الأساسي المتمثل بجمع زيت العنبر إلى هدفها الميتافيزيقي المهرطق: توجيه طعنة إلى الإرادة المحركة للكون. ستاربك (مساعد القبطان الأول) كان الشخصية الوحيدة التي أدركت الهدف الميتافيزيقي من وراء الرحلة، لقد كانت هذه لعنة ستاربك. كل البحارة الآخرين كانوا يعتقدون أن إيهاب يريد توجيه طعنة للحوت الذي قضم ساقه، و بما أن السفينة انطلقت لصيد الحيتان فلا ضير من اصطياد الحوت الأبيض موبي ديك. حاول ستاربك عدة مرات أن يتمرد على القبطان إيهاب أو أن يثنيه عن عزمه، بل فكر في إحدى المرات أن يقتله، و لكن إرادته كانت أضعف من أن تحسم الأمر، من هنا عقد الكثير من النقاد مقارنة ما بين ستاربك و هاملت، الأمير الدينامركي المتردد. على فكرة، سلسلة المقاهي الأمريكية الشهيرة ستاربك Starbuck تستعير اسمها من هذه الشخصية الروائية المغمورة.

كثير من القراء لا يتنبه إلى الطبيعة الخارقة (الفانتازية) للرواية، و السبب قد يعود إلى ثقتهم بميلفيل. هيرمان ميلفيل مؤلف محتال، كثيرا ما يورد على لسان إسماعيل كذباتٍ يريد منها أن تدفعنا إلى ما يعاكسها. يقول في أحد المواضع أنه لا يوجد -بالنسبة إليه- أمر أكثر بشاعة من أن يقرأ أحدهم مغامرته البحرية هذه على أنها قصة رمزية، في نفس الوقت الذي تنهمك فيه شخصياته في صناعة الرموز و إحكامها. أيضاً يحاول إسماعيل جاهدا أن يقنعنا أن كل الأشياء التي يذكرها عن الحيتان واقعية، يؤكد مرارا و تكرارا على هذه النقطة، مما يدفعنا دفعاً إلى الشك في هذا الادعاء و و الريبة من شخصية إسماعيل. بالنسبة إليّ، إحدى أكثر نقاط الرواية جذبا هي هذه الطبيعة الفانتازية اللانهائية للرواية. فلتتذكروا: هناك حوت واحد يريد القبطان إيهاب أن يعثر عليه و أن ينتقم منه. لكي يعثر إيهاب على حوته يتوجب عليه أن يقطع محيطات العالم العريضة و أن يتوافق و يلاقي الحوت ذات يوم! يريد ميلفيل أن يقنعنا أن أمرا مثل هذا ممكن أن يحدث، بينما نعلم نحن أننا قد نعيش مع شخص في مدينة واحدة (بل في حي واحد) دون أن نستطيع أن نلاقيه مصادفة دون تدبير. فما بالك بمحيطات العالم! انتبهوا، هذه النقطة ليست عيبا في الرواية بل نقطة جذب، إذ أن الرواية ميتافيزيقية و ليست واقعية، هذه اللانهائية تزيد من تجريد الرواية و ترفعها نحو المثالي و المطلق.

كثير هو النقاش الذي يتحدث عن وعورة الرواية و امتلائها بتفاصيل التحويت التي لا تصب في الحبكة الرئيسية، بل أن هناك من ينصح بالقفز فوق هذه الفصول و الاكتفاء بقراءة الصفحات التي تحتوي على أحداث و حركة، و تلك -لعمري- أغبى نصيحة قرائية سمعتها بحياتي. كما قلتُ سابقاً، هذه الرواية عبارة عن رحلة، سفينة الباقوطة تنتظرك على ميناء نينتاكت، و لكي تستمتع و تفهم ما يدور حولك ينوي ميلفيل أن يمطرك بكل معلومة أو تفصيل يمكن أن يكون له دخل بالتحويت. النقطة الثانية تخص موضوع القصة، فإذا كانت القصة تستخدم الحوت الأبيض كرمزٍ لفوضوية الطبيعة و فوضوية الإرادة المدبرة لتلك الطبيعة فمن الأحرى أن يكون بناء القصة أيضاً فوضوياً لا يسكن إلى نسق. في واحد من أجمل فصول الرواية (عن بياض الحيتان) يقول إسماعيل أن اللون الأبيض هو لون مرعب لأنه غياب الألوان و اجتماعها في نفس الوقت، إنه الكل و العدم، إنه لون اللانهاية. في فصلٍ آخر لا يقل روعة (عن الحيتان في اللوحات، في الأسنان، في الخشب، في الأعمدة، في الصخور، في الجبال، و في النجوم) يجعل إسماعيل الحوت مشهداً متواجدا في كل مظاهر الطبيعة، بل تستطيع أن تراه فوقك في قبة الفلك و في النجوم. الحوت رمز لفوضى الطبيعة و اضطرابها، و لذا حقّ للرواية أن تكون فوضى عارمة. الرواية لا تسكن إلى بناء ولا تتخذ أسلوبا واحدا، بل لو سألتني أن أصفها لك لقلت: "اقطع خمسمئة صفحة من موسوعة عن الحيتان، مئة صفحة من إحدى مسرحيات شكسبير، مئة صفحة من إحدى روايات مغامرات البحر بلسان راوٍ أول، و عندها سوف تخرج لك موبي ديك." ميلفيل لم يستخدم هذا الأسلوب الفوضوي عَرَضا أو لأن الرواية آنذاك كانت في بواكيرها كما يدعي البعض، لقد اتخذت الرواية شكلها الخاص قبل ميلفيل عن طريق كتاب كبار مثل والتر سكوت و ثاكري و ديكنز، بل إن روايات ميلفيل السابقة typee, omo كانت روايات تقليدية ذات بناء و نسق واضحين، و لكن لأن الرواية تتحدث عن بطل يثور على فوضى الطبيعة و لا معقوليتها، كان من الجدير بميلفيل أن يعمد إلى هذه الطريقة الفوضوية في كتابتها، و التي جعلت منها شيئا كبيرا لا نهائيا ضخما أشبه بالكون.

هناك نقطة لم يُشار إليها كثيراً و هي الكوميديا المتفجرة في سطور النص. لا أتذكر رواية كنتُ أضحك بصوتٍ عالٍ و أنا أقرأها كما حدث مع دون كيخوته و موبي ديك. الكوميديا في موبي ديك تعتمد بشكل عالٍ على اللغة أكثر من اعتمادها على الموقف، و لهذا يغيب الكثير من سحر الرواية بعد ترجمتها. في واحدٍ من أكثر المشاهد التي أضحكتني في الرواية، يتفاجأ إسماعيل أثناء إبحار الباقوطة بركلةٍ من مالك السفينة على مؤخرته. إسماعيل و نحن لسنا مستعدين لهذه الركلة، إذ أن إسماعيل عودنا على أن يكون كاميرتنا السلبية في الرواية، هو يراقب و يصف بدون أن يكون له دور إيجابي أو فعال. هكذا أراد ميلفيل أن يجعله. و لكن عندما تبحر السفينة يعتري مالكيها هياج غريب قبل توديعها، إنها فرصتهما الوحيدة كي يمارسا حياتهما الماضية (فلقد كانا بحارة فيما مضى) قبل أن يودعا السفينة. إنها اللحظة الأكثر حركة في النص، الكل يسحب و يتسلق و يجر و يحمل، بينما صرخات مالك السفينة القبطان بيليج تتعالى: Spring.. Spring.. "فزّوا على أرجلكم، اكسروا عواميدكم الفقرية شغلاً".. و لكن إسماعيل اعتاد و عودنا على أن يقف مراقبا يصف و حسب، ليُراع فجأة برجل القبطان بيليج و هي تركل مؤخرته. ميلفيل كان من العبقرية بمكان ليصنع هذه الركلة التي ذكرت إسماعيل و ذكرتنا أنه ليس من الكافي أن نراقب و حسب، بل إننا متورطون حتى أخمص قدمينا وسط الرحلة. الكوميدية لا تأتي من الموقف و حسب، و إنما باللغة الملتوية المضحكة التي يصف إسماعيل بواسطتها الموقف:

Meantime, overseeing the other part of the ship, Captain Peleg ripped and swore astern in the most frightful manner. I almost thought he would sink the ship before the anchor could be got up; involuntarily I paused on my handspike, and told Queequeg to do the same, thinking of the perils we both ran, in starting on the voyage with such a devil for a pilot. I was comforting myself, however, with the thought that in pious Bildad might be found some salvation, spite of his seven hundred and seventy-seventh lay; when I felt a sudden sharp poke in my rear, and turning round, was horrified at the apparition of Captain Peleg in the art of withdrawing his leg from my immediate vicinity. That was my first kick.

كيفَ تترجمُ هذه اللغة الفكاهية الملتوية؟ سأحاول:

"في هذه الأثناء، و بينما هو يراقب الجزء الآخر من السفينة، أخذ القبطان بيليج يعصف و يشتم فوق مؤخرة السفينة بطرقة بالغة في الرعب. كدتُ أعتقد أنه سيُغرق السفينة حتى قبل أن يسحبوا المرساة، توقفتُ لا شعورياً مستندا على رمحي و سألت كويويك أن يفعل مثلي، مفكرا في المخاطر التي يمكن أن نتعرض لها بانخراطنا في رحلةٍ قبطانها هو الشيطان نفسه. أخذت أطمئن نفسي أنه من الممكن أن نجد بعض الخلاص بواسطة بيلداد التقيّ، رغم قسطه السبعمئة و السبعة و السبعين، عندما استشعرتُ وخزةً مُفاجئة في مؤخرتي، و عندما استدرت، إذا بي أُراع بخيال القبطان بيليج و هو منخرط في عملية سحب قدمه من الجزء الأكثر خصوصية فيني. تلك كانت ركلتي الأولى."

لا يمكن أن توجد ترجمة تنصف السطور الإنجليزية الموجودة بالأعلى. تأملوا كيف وصف فعل الركلة بالحركة البطيئة بمجرد أن استخدام ألفاظا مثل: the art of withdrawing his leg from my immediate vicinity..

مثل هذه الفكاهة تتكرر كثيراً في ألفاظ ستوب Subb ، المساعد الثاني للقبطان إيهاب، و الذي يلجأ للضحك و الفكاهة في أكثر الأوقات حلكة كي يغطي جبنه. إحدى أكثر المقاطع لذة في الرواية هي تلك التي تصف الكلام الذي يتفوه به ستوب نحو بحارته كي يشجعهم على التجديف باتجاه الحيتان. ستوب لا يترك شتيمة أو لعنة إلا و يصبها فوق رؤوسهم:

Three cheers, men- all hearts alive! Easy, easy; don't be in a hurry- don't be in a hurry. Why don't you snap your oars, you rascals? Bite something, you dogs! So, so, so, then:- softly, softly! That's it- that's it! long and strong. Give way there, give way! The devil fetch ye, ye ragamuffin rapscallions; ye are all asleep. Stop snoring, ye sleepers, and pull. Pull, will ye? pull, can't ye? pull, won't ye? Why in the name of gudgeons and ginger-cakes don't ye pull?- pull and break something! pull, and start your eyes out! Here,"



في فصلٍ آخر، عندما يظهر القبطان إيهاب فوق الدكّة للمرة الأولى و يشير ستوب هازلاً للقبطان إيهاب أن ساقه العاجية تزعج نوم البحارة، يقوم القبطان إيهاب بركله، مما يحطم كرامة و إرادة ستوب المسكين تماماً. ينام ستوب متأثراً، و يحلمُ حلما غريبا مفاده أنه يركل هرما كبيرا شامخا، و عندما يجئ الصباح يتوجه ستوب نحو صديقه فلاسك ليحكي له الحكاية ثم يقول مبررا خنوعه بخصوص الركلة: "ليس من حقي أن أستاء أو أشكو إذ أن القدم التي ركلتني قدم صناعية.".. هل سبق أن قرأتم شيئاً أكثر فكاهة من هذا؟


أستطيع أن أتحدث عن موبي ديك بلا توقف، و لكني سأختم بالحديث عن تأثير أديب أحبه كان له الفضل الكبير في اتخاذ الرواية شكلها الحالي، و أعني به الأديب الأمريكي ناثانييل هوثورن Nathaniel Hawthorn. هوثورن من أحب الأدباء بالنسبة إلي، و يشكل مع بو و ميلفيل قمة أدب "إنجلترا الجديدة" الذي أعده أعظم أدب أمريكا. هوثورن هو أفضل من يكتب عن الشر، عن النواحي المظلمة في النفس البشرية، و رغم أن شهرته تعتمد على روايته الحرف القرمزي The Scarlet Letter، إلا أن عبقريته تتبدى واضحة في مجموعتيه القصصيتين: قصص من نزل قديم Moses from an old Manse و حكايات حُكيت مرتين Twice told stories. لا أعتقد أن هذه القصص قد ترجمت إلى العربية، و هي تستحق أن تترجم و أن تُقرأ و أن تُتجر. هوثورن هو أيضا أبو الأدب الرمزي، لا أحد يستخدم الرموز ببراعة مثل هوثورن. الكثير من النقاد يجزم أن موبي ديك عندما بدأت في عقل ميلفيل كانت فقط مشروع مغامرة صيد حيتان، إلا أن صداقة هوثورن التي بدأت سنة 1850 م جعلت ميلفيل يغير روايته مئة و ثمانين درجة ليجعلها رحلة ميتافيزيقية رمزية هي الأشهر في الأدب الأمريكي. الأمر لا يحطّ من شأن ميلفيل، فكما اقترح بوشكين موضوع رواية غوغول الأشهر (نفوس ميتة) كذلك فعل هوثورن. هو لم يقترح الموضوع و إنما غير الهدف و الأسلوب. هناك فصل بالغ الغرابة في رواية موبي ديك هو الفصل الثاني و العشرون The Lee Shore يرثي فيه ميلفيل إحدى شخصياته التي لم تظهر سوى مرة واحدة في بداية الرواية! كل من قرأ الرواية يتعجب من هذا الفصل و لا يفهمه، أما أنا فإني أفهمه كشاهدِ قبر يضعه ميلفيل فوق بطل مخطوطة روايته الأولى. كان ميلفيل يريد أن يكتب رواية مغامرات و صيد حيتان، و اختار لبطولتها شخصية أسماها بولكينجتون Bugkigton، ثم حدث و قابل هوثورن، و قرأ له، و تناقش معه في تلك الأمسيات الممتعة التي قضاها في منزله، ليتغير مشروع الرواية، و لينبثق القبطان إيهاب و الحوت الأبيض موبي ديك. لم يهن على ميلفيل أن يعيد كتابة فصوله السابقة أو أن يمحو اسم بولكينجتون. لقد اختار بكل بساطة أن يتخلص منه و أن يرثيه في ذاك الفصل القصير الغريب قائلاً:
 O Bulkigton! Bear thee grimly, demigod! Up from the spray of thy ocean-perishing-- straight up, leaps thy apotheosis



هناك تعليق واحد:

  1. مِنْ أجمل ما قرأت..!
    فتحْتَ لنا ما أُستغْلِقَ علينا في زمنٍ مضى.
    ألف شكر.

    ردحذف