الخميس، 7 سبتمبر 2017

جماجم


"والآنَ تفتحُ الطحالب والأعشاب بأناملها الواثقة زهرة جُمجمتِه."

(فيدريكو جارثيا لوركا)

( 1 )

انتهت المعركة، وهبط الليل، ودخل ابن هُبيرة  خيمته كي يغسل جراحاته ويزيل ما علاها من غبار ورهق. عندما خرج، ناوله عبده طُويس خرقةً مسح بها وجهه، ثم تقدم نحو التلة كي ينظر إلى الوادي العميق حيث دارت رحى المعركة. كان الدخان يتصاعد وكما لو أن الأرض تلفظُ ما علق بها من خَبَثٍ ودماء، وخيّل إليه أنه رأى روحًا أو روحين ترتفعان صارختين إلى الأعلى، وهبّت الريح فأخذت تدور غاضبةً حين لم تجد لها منفذا بين الجبال. أغمض ابن هبيرة عينيه، واستمع إلى الجوقة الرهيبة: كلاب تنبح، ورياح تزمجر، وخيول تصهل، وجرحى يئنون، وبكاء، وشيء ينفخ كما لو أنه كير حداد، وصوت يتصاعد متصلاً من باطن الأرض. عندما فتح عينيه، بصُر بفارس يتقدم نحوه، قدماه تخطّان على الأرض، وعندما ترجّل واقترب، رأى في هيأته ولبسه ما يدلُّ على أنه أحد الجند الخُراسانية.
   "أصلح الله الأمير، وكتب له العزة والنصر."
   "إنما نحن وأنتم جند الخلافة، ولقد أبليتم اليوم عن الإسلام والمسلمين أحسن البلاء وأصدقه."
   "سقط ابني أيها الأمير."
   "غفر الله له، وأبدله نُزلا في الجنة."
   أطرق الرجل برأسه ، وتململ مكانه، وعندما رفعه، رأى ابن هبيرة في سحنته شيئا أقرب إلى الخبل، كما لو أن سعار المعركة لم يفارقه بعد.
   "أصلح الله الأمير؛ عندما انتصف النهار، وكانت الدائرة علينا، سمعنا الأمير يصرخ: أيها الناس، أعيرونا جماجمكم ساعة، فأرخينا عمائمنا، وهززنا رماحنا، ثم حملنا على الخوارج حملة صدق، فأعملنا فيهم السيف، واضطررناهم إلى أن يلجأوا إلى الجبل، لم نرجع إلا بعد أن تخضبت السيوف، وتقصفت الرماح، وكان ولدي في جملة من سقط. فالآن بعد أن انقضت تلك الساعة، هلاّ أعاد الأمير عاريته؟"
   الرجل جدّ مخبول!
   "إنما هي كلمة تُقال حين يحمى الوطيس."
   "ما رأينا كاليوم قطّ! أمير يخلف وعده!"
   تقدّم الخُراساني نحو ابن هُبيرة، لكنّ الحرس اعترضوه وطرحوه أرضًا. تناهى إليهم صوت نباح كلاب، تذكر ابن هُبيرة كلمة قاضي القضاة عندما سهر عنده ذات ليلة في بغداد: نباح كلب يأتيك من بعيد أفصح دليل على الأبدية.
   أمر ابن هُبيرة حرسه أن يخلّوا الرجل. نهض، وسوّى عمامته، ثم هتف وهو ينطلق مبتعدا بفرسه: "الجراحات قصاص يا أبا العباس."
   تراجع ابن هُبيرة إلى خيمته. أملى كتابًا يزفّ فيه خبر النصر إلى الخليفة. بعد ذلك تفقد قادته، واستشار رجاله، وأصاب شيئا من طعام، لكن كلمة الخُراساني بقيت تلحُّ على أذنه: الجراحات قصاص يا أبا العباس! كيف عرف كُنيته؟ وما الذي دفعه لاستخدامها بدل كلمة الأمير؟ لعله الغضب! الجراحات قصاص! انقبض قلب ابن هبيرة، واستنكر طعم الأكل في فمه فأبعد القصعة، ثم دعا بخادمه طُويس، فأمره أن ينطلق الساعة إلى بغداد، ويقصد داره، ولا يبيت ليلته إلا وقد خرج بزوجته وابنه إلى أخوالهم في الأهواز. بعد ذلك، أمر قائد الخُراسانية أن يبحث برجاله بين الجثث عن فتى خراساني صفة والده كذا وكذا، أمرهم أن يأتوه برأسه.
   انطلق ابن هُبيرة بعد أسبوعين قافلا بجيشه إلى بغداد، ولو نظر أحد في جرابه لارتعد فرَقَاً؛ كان يحمل داخله رأس صبي خُراساني لم يطِر شاربه. فكّر ابن هُبيرة في الخُراساني وابنه والرأس، وفي تلك الكلمة التي اعتاد أن يثير بها حماس الجنود. يريدني أن أعيد إليه ابنه! تبًا لهذه الخُراسانية التي لا تفهم كلام العرب! لكنّ الحقَّ يقال؛ هم أهل نجدة وبأس، ولولا شدّتهم ساعة الدائرة لخسرت المعركة. بصق ابن هُبيرة على الأرض، وشدّ لجام جواده بعد أن انحرف قليلاً، عاد يفكر: لكن أين روح ابنه الآن كي أعيدها؟ أفي الرأس؟ أم القبر؟ أم السماء؟ أم الأرض؟ وإذا صحَّ أنه أعارني روح ابنه في الزمان الدنيوي، هل يلزمني إرجاعها الآن وهي تسبح في زمانها البرزخيّ؟ ماذا يجري للعاريّة حينها؟ إنها مسألة فقهية جديرة بإعجاب قاضي القضاة.
   ابتسم ابن هبيرة وهو يمضي قُدما نحو بغداد، بينما أخذ الجراب يتراقص يمنةً ويسرة على وقع حوافر جواده.


( 2 )

دخل ابن هبيرة بغداد، واتجه مباشرة إلى قصر الخلافة. كان استقبالا مهيبًا، يليق بنصر كهذا. أطرى أمير المؤمنين قائده المنتصر، وخلع عليه، وأجلسه جانبه، وعندما همّ بالخروج، ناوله سيفا مُذهبّا يعود إلى الخليفة المعتصم. لم يكن ابن هبيرة عجلا للرجوع إلى بيته،  إذ كيف يكون البيت بيتًا دون حُرَمه وولده؟ عندما رجع، استقبله عبده طويس. أخبره أنه أوصل ابنه وزوجته إلى الاهواز قبل أسبوع، وها قد رجع ليستقبله. أخبره أيضا أنّ معلّم ولده في الكتّاب أبا الريحان ياقوت ينتظره داخل الدار. استغرب ابن هُبيرة هذه الزيارة غير المتوقعة، قد يكون أتى مستفهما عن غياب العباس!
   عندما دخل، هبّ المعلمُ واقفا وقبّل يد أمير الجيش.
   "أصلح الله الأمير، وملأ أيامه نصرا."
   "شكر الله لك يا أبا الريحان."
   "مولاي، رابني شيء فأحببت أن أرفع إليك بخبره. لاحظت رجلا يدور حول الكتّاب في الثلاثة الأيام الأخيرة، يسأل الصبية عن ابنكم العباس. فلمّا لم يأت العباس رأيت أن أخبر مولاي لعل الأمر يهمّه."
   انقبض قلب ابن هبيرة.
   "صفه يا أبا الريحان."
   "أسمر، عريض الكتفين، وطويل القامة جدا."
   إنّه هو!
   أخرج ابن هبيرة كيسا من الدراهم وناوله المعلم.
   "أحسنت وبررت يا أبا الريحان. الرجل مخبول كَلِب، ولو خُليّ بينه وبين العباس قتله. خذ معك طويسا والجنود، وانتظر الرجل، وإذا رأيته أشِر إليه والباقي على طويس."
   مضى أبو الريحان بالجنود والنقود، بينما انسحب ابن هبيرة إلى غرفته منزعجا مقبوض القلب. لم يطق إغماضا، لكن حين فكّر بالأمر حمد ربه؛ فالرجل بعد أن عجّل بهلاك نفسه أنهى المشكلة، والآن بعد أن يلقي به في السجن، بوسعه أن يرسل طويسا كي يحضر أهله وولده. ثم ماذا لو أنه أحضر العباس ثم سبق هذا المخبول إليه؟ نفض ابن هُبيرة الفكرة منزعجًا قبل أن يسقط في غياهب النوم.
   عندما أفاق، كان طويس والحرس ينتظرونه في باحة الدار ومعهم الخراساني. تناول ابن هبيرة الجراب واتجه نحوهم. كان الخراساني ملقى على ركبتيه، شعره أشعث، وملابسه ممزقة. تقدّم ابن هبيرة بخطى واسعة حتى وقف فوق الخراساني، ثم قلب الجراب، لتسقط الجمجمة متدحرجة على الأرض.
   "هل تريد عاريتك؟ ها هي، خذها."
   تراجع الدم من وجه الخراساني حتى تحوّلت الحُمرة شحوبًا باهتًا كالموت. ارتدّ ابن هبيرة إلى جوف داره، وتناول دواةً وصحيفة، وبعد أن أعمل فكره لحظاتٍ كتب فيها:
   " إلى قاضي القضاة أبي الوليد عبد الرحمن بن محمد المعافري حرسه الله : هذا رجل من عامة الجند، قُبض عليه وهو يهمّ بقتل ابني العباس، فأمرت أن يُلقى في الحبس ولا يرى النور أبدا، فإن رفع إليكم بشأنه فهذا خبره، والسلام. "


( 3 )

كان المجلس فسيحًا بَهِجًا، النور يتسلل عبر الشرفات ويختلط بالعتمة، والروائح تتصاعد مع البخور فتعطي الهواء رائحةً تبعث الخدر. وعلى الطنافس وفوق البُسط استلقى قاضي القضاة مرتخيًا، كما يليق بالمضيف أن يسترخي في هناءة داره، بينما تحلّق حوله أصحابه: أمير الجند، وكاتب الخراج، وكاتب الإنشاء، في مجلس لا يعيبه سوى أنهم في دعوة الأحلام كما يقول أبو تمام.
   مدّ قاضي القضاة ساقه، وقضم تفاحة، ثم قال:
   "كنت بالأمس عند أحد الشعراء، فألقى بيتين من الشعر، يصف وجها قبيحا مقروحا ذهب المرض بروائه. نسيت البيتين، لكن الوصف كان من الخلابة والبراعة والدقة، بحيث صرخت: ما أحسنه! وما كاد الاستحسان يخرج من فمي، حتى استغرقت بالتفكير، فهل هو استحسان للوجه القبيح؟ وفي هذا عجب أيّ عجب! أن تستحسن قبيحا! ولربما قلتم: إن الاستحسان يعود إلى دقة الوصف، أو إلى الحقيقة، فلقد وصف الشاعر الوجه كما هو، على حقيقته، والسهم إذا أصاب يُعجِب. لكني أرى خلاف ذلك، فلو أراد الشعراء الحقيقة لقالوا: كأن الوجه وجها، وكأن القمر قمرا، لكنهم يقولون كأن الوجه فلقة قمر، وكأن القمر وجه حسناء، وهذا نوع من الكذب، أبعد ما يكون عن الحقيقة، ولم يجلب الاستحسان إلا لأن السهم أخطأ الرميّة وأصاب صورتها. هناك قصة شهيرة تخصّ أمير المؤمنين أبا العباس عبد الله ابن المعتز يرحمه الله. أبو العباس كان شاعرا، وفيلسوفا أيضا، وذا رأي في الجمال حصيف. تقول القصة إنّ ابن المعتز كان يوما في ضيافة النميري، وعنده جارية لبعض بنات المغنين، كانت غايةً في القبح، إلا أن الأمير –يرحمه الله- جعل يغازلها، ويجمّشها، ويتعلّق بها، فلما قامت سأله النميري عن ذلك فقال:
                    قلبي وثّابٌ إلى ذا وذا          ليس يرى شيئا فيأباهُ
                    يهيمُ بالحُسنِ كما ينبغي        ويرحم القبحَ فيهواهُ
   غفر الله لأبي العباس، ما كان أنبله! إلا أني أرى في القصة شيئا آخرَ أعظم خطرًا: لقد كان ابن المعتز قادرا على رؤية الجمال في القبح، فالخط المستقيم إن زلق به القلم، والبرق إن مزّق سكون الظلمة، والحجر إن عكّر صفحة البحيرة، كل هذا يكسر رتابة المنظر، ويجعله أكثر حياةً وحرارةً. إذن، نعم، هناك شيء من الجمال في بعض القبح. ما رأي مولانا أمير الجند؟"
   ابتسم ابن هبيرة، وأصلح جلسته، ثم أجاب:
"كان يُفترض أن تكون شاعرا يا أبا الوليد! لكني أفهم ما تقصد إليه، ولو سألتني: ما أجمل منظر ممكن أن تشاهده على هذه الأرض، لأجبتك دون تردد: ساحة معركةٍ بعد انتهائها."
   هنا، انتفض الضيوف معترضين، وسرت الغمغمة.
   "لعلّ أمير الجند اختلط عليه مفهوم الجمال باللذة التي يستشعرها القائد بعد النصر!"
   "ليس إلى هذا قصدت. فساحة المعركة جميلة حتى لو كنت مهزوما. أذكر أول مرة وقعت فيها على هذا الكشف. يحتاج الأمر إلى مسافة حتى تأخذ المنظر بكامله. كنت حينها على بعد فرسخ أو اثنين، فوق تلّة تطل على المنظر. هبط الليل، وأضاء البدر، وانتثرت أشعته على الوادي. فما ظنك بوادٍ يختلط فيه النور بالظلمة، والدماء بالعرق، والدموع بالصديد! لقد شبّه الشعراء المعركة بالرحى، وحسنا فعلوا، فمن يدخل الساحة بعد المعركة يجد كل شيء معجونا، متداخلا، ولربما رأى رجلا بأقدام حصان، أو حصانا بجذع رجل، أو عنق بعير ملقاة بين جذوع النخيل، ولربما أصابته حمى، فخاطبه الحصان المقطوع العنق، شيء لا يعرفه إلا الضباع وسفلة البشر، الذين يتسللون بعد انتهاء المعركة للسلب والنهب، والمنظر في غاية البشاعة إذا كنت داخله. لكن اجعل بينك وبينه هذه الفراسخ الثلاث، وسيتحوّل شيئا آخر تماما، سيصلك الزفير والبكاء كأنه تنهيدة غانيةٍ تنام وحيدةً وسط الليل، وستحس بالحرارة تنبعث من جوف الأرض، ولو صبرت شهرا لربما أنبتت خزامى وعراعر! فكروا بالأمر: قبل المعركة هناك أمير جيش، وقادة كتائب، وفرسان، ومشاة، وحيوانات، ودواب، ثم تدور الرحى العظيمة فإذا كل ذلك يتداخل ويُطحن، وينتهي بهذا المنظر البارع."
   تنحنح قاضي القضاة:
   "وصفُ بارع بالفعل، لكن اسمح لي أن أقف قليلا عند هذه الرحى، وهذه الفراسخ الثلاث. خيّل لي وأنا أسمع أنّ شيئا آخر أعجبك يتعدى المنظر. حكيت عن الرحى، وكيف دارت، فسوّت بين القائد والجندي، وكأنّك تتغنى بالعدالة الإلهية، وهذا شيء يهمني كقاضٍ، وسبق أن فكرت فيه. أنا مثلك، كنت في ريعان شبابي أرى في السيف حين يسقط على عنق القاتل منظرا يفوق في جماله كل شيء. فأي شيء أروع من أن ترى العدالة تضرب بصيقلها؟ ثم اكتشفت لاحقا، أنك كلما اقتربت من المشهد، زال الجمال، وبهتت العدالة. فماذا عن الطفل الرضيع الذي سيصحو غدا بعد أن اقتصصت من والده؟ وماذا عن ابنته التي ستبيع نفسها كي تشبع خَلّة أسرتها؟ هل يحق لنا أن ننظر إلى مناطق مثل هذه؟ أن نقطع الفراسخ الثلاثة؟ أن ننظر من خصاصة الباب؟ أحيانا يخيّل لي أنك لن تفهم مثل هذه الأمور إلا إذا نظرت إليها من مسافة عالية كالنجوم. وهذا هو أسّ مشكلتنا: أننا ننظر من خصاصة الباب، ونفكر كالنجوم!"
   ابتسم ابن هبيرة، وهزّ رأسه:
   "ليس إلى هذا قصدت، فمنظر ساحة المعركة جميل بذاته، دون أن يكون هناك شيء وراء ذلك. لكني أحببت حديثك عن خصاصة الباب والنجوم."
   انفضّ المجلس، وانصرف كل رجل إلى داره، وأُطفأت القناديل، وهدأت الأصوات، لكن قاضي القضاة بقي ساهرا يفكّر. أخذ يدور كالملدوغ حول نفسه، وتطلع من شرفة داره نحو الليل، وعندما لم يستطع غمضا فتح دُرجا يخفي فيه رسائله وقرأ القصاصة التي بعث بها ابن هبيرة قبل شهرين. قرأها ثلاث مرات، ثم أمر عبده أن يذهب إلى رئيس الحرس ويأتيه بالسجين الخراساني مقيّدا.
   عندما مثل الخراساني بين يديه أخذ يتأمله. كان فارع الطول، أكحل العينين، نظراته لا تستقر على مكان. سأله قاضي القضاة:
   "ما جريرتك أيها الرجل؟"
   "ليس لي جريرة استحق من أجلها الحبس."
   "كتب أمير الجند يقول إنك هممت بقتل ابنه!"
   "إنما هي كلمة فهمها أمير الجيش بشكل خاطئ. أين هو الفتى الآن؟"
   "في داره."
   "فلماذا أبقى في الحبس؟ "
   "أحيانا يكون الحبس ضروريا لمن يُخشى شرّه على المسلمين."
   "هل سمع مولاي بحكاية كسرى والقهرمانة والعبد."
   تطلّع قاضي القضاة في وجه الخراساني، وكأنه استغرب السؤال.
   "قرأت في التاريخ والملاحم البهلوية كثيرا، لكني لم أسمع بشيء كهذا."
   "يُقال يا مولاي إن أنوشروان كان شابًا غضّ الإهاب حين خرج مزدك اللعين وغلب على عقل والده قبّاذ، وكان مما دعا به اللعينُ إباحة الأموال والأزواج وجعلها ملكا مشاعا. فحدث أن شرب مزدك عند قبّاذ ذات مرة، فلمّا دارت الخمر برأسه قال مزدك: أليس مالك مالي، ونساؤك نسائي؟ أجاب قبّاذ: بلى. قال: فلماذا لا تبعث إلى امرأتك وقهرمانتها، فتلبسها القهرمانة أحسن ثيابها، وتضع التاج فوق رأسها، ثم تأتيني، فأدخل بها كأحسن ما يكون؟ أجابه: لك ذلك، ثمّ تناول صحيفة وقلمًا، وكتب إلى زوجته بما قال مزدك، ودفع بالصحيفة إلى عبد كي يوصلها. فلما فرغت الملكة من زينتها، وقفت عند الباب، ورآها أنوشروان على تلك الحال، فكاد أن يُجنّ. دخل الغرفة، وقبّل قدم والده، وقدم مزدك، تخيّل! وما زال يلح عليهما حتى تنازل الأخير وأبقى على الملكة من أجل ابنها. لكن أنوشروان لم ينس موقفه الذليل وأسرّها في نفسه. ثم حين اعتلى العرش، أحضر مزدك، والقهرمانة، والعبد الذي سفر بين أبيه وبين والدته، ثم أمر بتقطيعهم وحرقهم أحياءً. قُتل مزدك، وقُتلت القهرمانة، ثم لما جاء دور العبد جثا بين يدي كسرى أنوشروان وقال: إنما أنا رسول لا علم له بالرسالة التي يحمل. لكن أنوشروان أبى إلا أن يُقتل. فلما استيأس الرسول، دعا بدواة وصحيفة وكتب كتابا، ثم طلب أن يُسلّم إلى كسرى أنوشروان بعد قتله. وهكذا كان. فلما فتح أنوشروان الصحيفة قرأ فيها: تقول القهرمانة إن والدتكم بعد أن صرفتها عن الباب، وقع في قلبها أن مزدك يشتهيها، فنما حبه في قلبها، وأدخلته مخدعها ست مرات."
   سكت الرجل الخراساني. وسكت القاضي.
   "حكاية غريبة! لكن كيف عرف كسرى أنوشروان أن الرسول صادق في صحيفته، فلربما تكلّف القصة كي ينتقم!"
   "وهل يهم حين ينغرز النصل إن كان معدنا أو خشبا؟"
   "لكن ما علاقة القصة بقضيّتك؟"
   "أنا كحامل الرسالة، لا يدري ما فيها، فإن قلت شيئا ثم وقع في خاطر أمير الجند شيء آخر، فالذنب ذنبه لا ذنبي."
   أمر قاضي القضاة بإرجاع الخراساني إلى محبسه. أخذ يفكر في القصة، وبالأخص الجزء الأخير، كيف انتقم الرسول من كسرى أنوشروان. لا بدّ أن كسرى سهر ألف ليلة وهو يفكر في محتوى تلك الرسالة! لو أنه أبقى على العبد لما أفسد عليه حياته ونومه. لكن وجه الشبه بين حامل الرسالة والخراسانيّ استعصى عليه ولم يقنعه، وقبل أن ينام، هتف قاضي القضاة في ضيق: تبا لهذه الخراسانية التي لا تعرف كيف تضرب الأمثال!
   في الصباح، أمر القاضي بإحضار بضعة رجال ممن شهدوا الحادثة. استجوبهم، وعندما لم يجد دليلا دامغا يدين الخراساني أمر بإطلاقه.


( 4 )

العصافير تزقزق، والزغاريد تلعلع، واليوم عيد، والأطفال يركضون جيئة وذهابا. لبس ابن هبيرة السواد، ووضع عمامته، وتمنطق بالسيف، وعندما خرج من داره رأى ابنه العباس بصحبة العبد طُويس. قبّل الابن يد والده، وهنأه بالعيد، وعندما سأله أبوه أين يعتزم الذهاب، قال إنّه قاصد السوق كي يبتاع حلوى بقطر العسل. أوصى ابن هبيرة طويسا أن يلزم العباس ولا يفارقه لحظة، ثم اعتلى فرسه وخرج قاصدا قصر الخلافة كي يؤدي واجب السلام على أمير المؤمنين.
   لم يستعجل طريقه، فلقد كان في منظر الأطفال والنساء والجواري ما يبهج القلب. ها هم يخرجون في زينة العيد، يشترون الأقمشة والحُلي والحلوى المقطّرة بالعسل، هانئين غافلين، لا يدرون عن الأخطار التي تحيط بعاصمة الخلافة من كل جانب، والفضل له ولرجاله، ولسيفه الذي ما قابل الأعداء في ثغر من الثغور إلا هزمهم. بالأمس فقط حدّثه الخليفة عن الأوضاع في البذّ شمالًا، وكيف بدأت الزندقة والمزدكية تنتشر من جديد. أصغى ابن هبيرة بانتباه، وعندما أنهى الخليفة حديثه، قال بكفاءته المعهودة: الجند جاهزون يا مولاي، أعطنا الأمر وسنحصرهم ونقتلهم ولا نذر منهم أحدا.
   عندما رجع آخر النهار، وجد داره مقلوبة. كانت الأم تبكي، والجواري يبكين لبكائها، والعبيد يركضون أمام الدار بلا فكرة أو وجهة. صرخ ابن هبيرة بصوته الجهوري مستفهما عما يحدث، أُخبر أن ابنه العباس مفقود منذ الصباح، وأنّ طويسا رجع دون سيّده، وأنهم بحثوا عنه في السوق دون فائدة. هرع ابن هبيرة نحو طويس فلقاه شاحبا يرتجف في إحدى الزوايا، وقد عقد الخوف لسانه. لطمه ابن هبيرة وصرخ:
   "أين أضعت مولاك يا لُكع؟"
   "أقسم يا مولاي أنّ سيدي العباس لم يغب عن ناظري لحظة. كان الدكان مزدحمًا، وأردت أن أفسح لبعض النسوة، ولم أتبادل مع غصن وقاسم سوى كلمة أو كلمتين. لكن حين نظرت إلى حيث جلس مولاي العباس إذا به غادر مكانه. قلبت السوق رأسا على عقب أبحث عنه. قلت ربما رجع إلى الدار حين لم يجدني، فعدت أيضا. يا لي من عبد سوء! يا لي من شقيّ!"
   انكفأ العبد يبكي على نفسه بصوت عالٍ، تركه ابن هبيرة وأخذ يوزع المهام على باقي العبيد. أرسل واحدا إلى رئيس الدرك، وواحدا إلى رئيس السوق، وأرسل الباقين كي يمشّطوا حواري وأزقة بغداد جمعيها، فلا يتركوا موضعا إلا بحثوا فيه. بعدها ذهب إلى زوجته كي يهدئ من روعها ويسلّيها إلى أن يرجع العباس.
   أظلم الليل، وأنيرت المشاعل، ولزم العبيد ساحة الدار. كانت ليلةً طويلة، أطول من ليلة الهرير. عندما لاحت تباشير الفجر، أقبل حمّال من آخر الزقاق يتهادى، يحمل فوق حماره صندوقا خشبيا مربعا. أحاط به العبيد من كل جهة وكادوا يركبونه. سألوه أين يقصد؟ أجاب إنه يبحث عن دار القائد ابن هبيرة، وإن الصندوق أمانة دفع بها أحدهم مقابل مبلغ من المال. ملأ اللغط الدار، وأسرع ابن هبيرة إلى الباب، وعندما رأى الصندوق أحس كأن قبضة تهوي على صدره. سأل الرجل إن كان أُعطي رسالة أو عبارة يوصلها مع الصندوق، فأجاب بالنفي. استجمع ابن هبيرة شجاعته، وأدار الغطاء، وعندما فتح الصندوق إذا برأس ولده في القعر.
   بكت أم العباس كما لم يسبق لها البكاء، أما أمير الجند، فلقد أمر بطويس فرُبط عاريا، ثم انهال عليه بالسوط مئة جلدة، وهو بالكاد يرى موضع ضرباته.


( 5 )

بعد أن دفع الخراساني بالصندوق إلى الحمّال غادر بغداد. لم ينتظر لحظة، بل ركب فرسه، وخرج من باب خراسان، واتجه مصعدا شرقا وشمالا. كان يتمنى أن يشفي غليله برؤية ابن هبيرة وهو يفتح الصندوق، لكنه كان يعلم خطر ذلك، ويعلم أنّ الحمال ممكن أن يقودهم إليه، لذا فالأحوط أن يخرج من بغداد بأسرع ما يمكنه، وأن يتجه إلى البذّ. أخذ يتخيّل وجه ابن هبيرة مبتسما وهو يقطع الفيافي والآكام، فكّر كم هو محظوظ حين لم يره على الحقيقة، لأنه لو فعل، لكان وضع للأمر نهاية. أما الآن، فسيتخيل الأمر باستمرار، ويتلذذ فيه، وكأنّ ابن هبيرة محكوم بفتح الصندوق الذي يحوي جمجمة ولده كل يوم. وهكذا، قد يكون في هذه الفكرة جواب على المسألة التي أراد ابن هبيرة عرضها على قاضي القضاة: لقد أعاد الخراساني العاريّة في زمانٍ برزخي!
   كان الخراسانيّ يعرف البذّ جيدا، يعرف تلك السروة التي ينوي أن يدفن جمجمة ابنه أسفلها. عندما فرغ من الدفن، قصد سوق السلاح، فاشترى لنفسه رُمحا، وصقل سيفه، ثمّ انضم إلى الجماعة الخارجة على الخلافة. غريب أمر الانسان! عندما حكى الخراساني قصة كسرى والقهرمانة والعبد قبل شهرين وأتى ذكر مزدك صبّ عليه جام لعناته، وها هو الآن ينضم إلى جماعة تدين بالمزدكية، لا لشيء إلا لأن المعسكر الأول لم يعد آمنا، وكأن الديانة لبس يلبسه المرء بعد أن يركن إلى موضع آمن.
   تدفقت الجماعات الثائرة من كل القرى المحيطة، وبدأ هذا الجيش الغريب يكبر ويضم خليطا عجيبا من الناس. فهناك الناقمون على الخلافة، وهناك المضطهدون، وجموع من المزدكية، والزنادقة، والمرتزقة، وأولئك الذين يحلمون بإعادة ملك كسرى. شهد الخراساني عدة معارك مع الثوار، وجمع من الأسلاب والأموال قدرا لا بأس به، إلا أن وقت الدعة لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما وصلت الأخبار بقدوم جيش الخلافة، وعلى رأسه القائد المظفّر ابن هبيرة. سرى الرعب في جيش الخوارج، وأراد بعضهم أن يفر، ودعا بعض إلى التحصن في البذ، لكنهم عقدوا العزم أخيرا على الهبوط جنوبا كي يلتقوا جيش الخليفة بعيدا عن معقلهم، حفظا لذراريهم، ولما جمعوا من أموال.
   وهكذا التقى الجيشان في أرض وعرة تحيطها الجبال قرب رستاق خُش. لاحظ الخوارج أن جيش ابن هبيرة ليس بالضخامة التي كانوا يتوقعونها. التفت رجل بجوار الخراساني وهتف: أين ذهب فرسانهم؟ لا أرى إلا الرماة والرجّالة! يبدو أن خزائن الخليفة فارغة كما يُشاع!
   شدّ الخوارج شّدةً كاد أن ينكسر لها جيش الخلافة، وقتلَ الخراساني خمسةً ما بين وجأة رمح، وضربة سيف. عندما تهاوت الشمس انكسر جيش ابن هبيرة أخيرا، وبدأوا يتراجعون حتى انتهوا إلى أرض فسيحة تحوّطها الجبال. سقط الخراساني من على جواده أثناء مطاردته أحد الهاربين، وحين اعتلاه الهارب، استدار الخراساني وفاجأه بطعنة خنجر أجهزت عليه. لكنه فجأة، وهو يلتقط أنفاسه، أحسّ بالأرض تهتز تحته، وسمع أصواتا كأنها طبول بعيدة، ثم تعالى الصراخ، وبدأ الخوارج يتساقطون أمام الطوفان الذي اجتاحهم من الجهة الغربية. لم يكن طوفانا، إنما فرقة ضخمة من الفرسان والخيّالة، أخفاها ابن هبيرة وراء الجبل، وادّخرها من أجل ضربته الأخيرة.
   هبط الليل، وبدأت الضباع والمرتزقة والسِفلة تتلمس طريقها بين الجثث. ملأ طويس كيسه بالأسلاب والنقود، واضطر إلى قطع أصبع جثة كي يحرر خاتمها. كان من عادته أن يغتنم هذه السويعات القليلة التي ينشغل فيها القائد كي يحرز شيئا من المال والسلب، وبينما هو يخوض بين الجثث، توقف عند إحداها وأخذ ينظر مليًا. أمسك بها من رجليها وسحبها إلى بقعة أكثر نورا. نعم، إنه هو. مستحيل أن يُخطئه. الخراساني الذي قتل مولاه العباس. بلع طويس ريقه، وأقفل كيسه، ثم انطلق يجري متحاشيا الجثث، قاصدا التلة، حيث نُصبت خيمة القائد.
   عندما وصل، وجد مولاه واقفا على السفح، يتأمل المنظر كما جرت عادته. استنشق ابن هبيرة الهواء، وتنهّد، ثم قال، وكأنما أحس بمقدم خادمه:
   "أتعلم يا طويس؟ أحيانا يخيّل لي أن ميدان المعركة بقعة تعزب عنها عين الله. قد تعدّها هرطقةً، معك حق، فلا شيء يخفى عن الله في الأرض ولا في السماء، حتى هذه العجاجة التي أثارتها خيول الجيش النازل تحت أمر خليفته، هي لا تحجب شيئا عن ناظره. أظن قاضي القضاة كان سينتفض لو سمع هكذا عبارة. كنت معه قبل ستة أشهر، قبل أن نفقد العباس. قال إن في الرحى التي تدور  وتسويّ بين الوضيع والرفيع شيئا من العدالة، بل زعم أني أستحسن المنظر لأجل هذه العدالة! غفر الله له، وهل هي إلا بقعة موبؤة، لاحظتها عين العناية ثم أشاحت عنها بوجهها؟ الطريف، أني بدأت أتنبا بنتائج المعارك ويصدق ظني كل مرة، كما يفعل الجنائني حين يفتح جدولين من الماء، ويحسب كيف سيغير كلا منهما اتجاهه. لكن من يستطيع التنبؤ بمصير كل قطرة في الجدول؟ هذا الذي يعزب عن فهمنا ويدخل في علم الله. ربما لهذا السبب لم أستطع التنبؤ بمقتل العباس! نعم، لمحت الجنون في وجه الخراساني ورميت به في السجن، فهل أعذرت؟ كيف لي أن أتنبأ بأن قاضي القضاة سيخلّي سبيله؟ أو أتنبأ أن عبدا يترك سيّده وينشغل بالثرثرة مع أصحابه المخنثين؟ وها أنا ذا! الأمير الذي كسب كل المعارك وحمى حوزة الإسلام، لم أستطع أن أحول دون قتل ابني، بينما يمضي ذاك الخراساني الآبق دون قصاص أو انتقام! إنّما هي دنيا موبؤة، لاحظتها عين العناية، ثم أشاحت عنها بوجهها."
   أطرق طويس برأسه وركل حصاة تحت قدمه. أخذت ابتسامة مريرة تعلو وجهه لولا أن حجبها الظلام. فكّر لحظات، ثم استدار عائدا إلى الخيمة. كان ينوي أن يخبر مولاه عن الخراساني، لكنه بعد أن فكّر مليّا قرر خلاف ذلك. لم يفكر بالمئة جلدة، ولا بالطريقة التي تحدث بها مولاه عن أصحابه، ولو سألته لتنكّر للقرار قائلا: العبد لا يقرر، إنما يسمع ويطيع. شعر فقط أنّ هذا هو الأجدر فعله. وكأنّ شيئا همس داخله بذلك، فسمع وأطاع، شيئا ما، ربما النجوم!



عدي الحربش
Sep 7 - 2017