"تخيّل أنك اضطررت للبقاء في قرية إيطالية صغيرة، حيث قررت إحدى الشركات الضائفة أن تعرض أوبرا التروبادور. تخيّل أنك -إذ لا شيء يشغلك- قررت أن تتهادى في جنبات المسرح، أن تسلم نفسك لهذا العرض الهزيل؛ أوركسترا سيئة، مغنية عجوز، وكورال يوفر نفسه من أجل النوتة الأخيرة. لكن تخيّل، وبعد أن صادفت كل شيء بالسوء الذي تتوقع، إذا بصوت ملائكي غير متخيّل، ينبعث من خلف الكواليس، صوت نقي كضوء القمر، غني كالشجن، قوي كالحقيقة، مغنيا بمفرده، بمعزل عن باقي الأصوات، وحيدا على الأرض، وبعيداً سوف يأخذك عن الأرض."
عندما قرأت الوصف السابق لجورج سانتيانا عن الشاعر الإيطالي جياكومو ليوباردي لفت انتباهي شيئان: تشبيه شعره بضوء القمر، والتركيز على عزلته. لم يكن سانتيانا الوحيد الذي شبه شعر ليوباردي بضوء القمر، فهذا أيضا مواطنه إيتالو كالفينو، عندما أراد أن يتحدث عن فضيلة الخفة lightness في إحدى محاضراته استدعى شعره كمثال: "الشيء المعجز في شعره أنه يزيل الوزن من اللغة، إلى درجة أن تصبح شبيهة بضوء القمر". إنه تشبيه لا مفر منه، فليوباردي شاعر القمر بامتياز، لقد ظهرت مفردة القمر في شعره أكثر من خمسمئة مرة. أما عزلته فهي الصفة الأظهر في حياته، وهي ما سأركز عليه في هذه التدوينة، ولعل العنوان الذي اختارته آيريس أوريجو للبيوغرافيا التي كتبتها عن الشاعر تثبت هذا الشيء: ليوباردي "دراسة في العزلة" Leopardi: A Study in Solitude
ليوباردي عاش حياة شقية، وهذا شيء لا مفر منه لشاعر يملك عقلا واطلاعا كونيين ثم يجد نفسه محصورا في قرية صغيرة ومنعزلة كقريته ريكاناتي. هناك شيء غريب هنا، وكما لو أن الظروف تعاضدت كي تهبه هذا الصوت الملائكي الأكثر حزنا. والده الكونت مونالدو ليوباردي كان آخر الأرستقراطيين، آخر من لبس السواد، وعلق سيفا حول خصره. كان مبذرا، وتافها، وضيق الأفق، ولكن -وكما أن القدر أراد له أن يكون هكذا كي يؤدي هذا الدور الهام في تكوين ابنه العقلي- كان مهووسا بجمع الكتب. كان يشتري الكتب بالجملة، بالوزن، وكلما سمع عن كنيسة خربة على وشك الإغلاق سارع إلى شراء مكتبتها كاملة. وهكذا تكونت في قصره واحدة من أغرب المكتبات وأوسعها: كتب الدين، والفلسفة، واللغة، واللسانيات، والشعر، وموسوعات، ومجلدات، ومجلات، كل شيء. عندما اكتملت، علّق الكونت مونالدو لافتة فوقها تقول إنّ مكتبته مفتوحة لجميع أبناء قريته ريكاناتي، لكن القرويين لم يكونوا مهتمين لا بالكتب ولا بالمكتبة. الشخص الوحيد الذي استفاد من هذه المكتبة الضخمة كان ابن الكونت، شاعرنا جياكومو، والذي سيغدو -بفضل مكتبة أبيه- واحدا من أعظم شعراء إيطاليا وأغناهم لغة.
ماذا عن والدة الشاعر؟ الكونتيسة آديلايدا ليوباردي؟ لقد كانت سيدة متدينة للغاية، وعندما شارف زوجها المبذر الإفلاس استطاعت بحزمها وتدبيرها أن تنقذ العائلة من الفقر. لقد بقيت هذه السيدة خالدة في صفحات الأدب بسبب الوصف المخيف الذي تركه ابنها الشاعر عنها في دفتر ملاحظاته: "أعرف أمًا لم تكن بالمتطيرة، لكنها كانت دقيقة صارمة في إيمانها المسيحي وممارستها الدينية. كانت عندما تسمع بعائلة فقدت أبناءها في سنينهم الأولى لا ترثي لهم، و إنما تحسدهم، لأن هؤلاء الأطفال سيذهبون مباشرة إلى الجنة، وسيكفون عائلتهم عبء نفقتهم. لقد وجدت نفسها أكثر من مرة على وشك فقدان أحد أطفالها. عندها لم تكن تصلي للرب كي يتوفاهم، إذ أن الدين يمنع ذلك، لكنها كانت تحس ببهجة عميقة، وعندما ترى زوجها يبكي حزنا كانت تنسحب إلى خلوتها شاعرة بضيق حقيقي. كانت متفانية في تعهد هؤلاء المرضى المساكين، لكنها في أعماق أعماقها تتمنى أن تذهب كل جهودها سدى، بل إنها اعترفت ذات مرة أن الشيء الوحيد الذي كانت تخشاه أن تسمع أحد الأطباء يخبرها بتحسن طفلها. كانت تعتبر الجمال عقوبة حقيقة، وعندما ترى أبناءها بشعين أو مشوهين كانت تشكر الله بعمق، لا عن تسليم وإذعان، لكن بنشوة وفرح. لم تحاول أن تساعدهم في إخفاء عيوبهم، وإنما كانت تطالبهم -بسبب هذه التشوهات- أن يزهدوا بالحياة ويتنكروا لها في ميعة شبابهم. لو قاوموا، لو حاولوا خلاف ذلك، لو نجحوا أدنى نجاح، كانت تنزعج، وبآرائها وتعليقاتها كانت ستحطّ من انجازاتهم قدر الإمكان. لم تكن لتفوّت فرصة دون أن توبخهم وتذكرهم بعيوبهم الخلقية، وما تقتضيه هذه التشوهات من إنكار للحياة، وأن تقنعهم بتعاستهم المحتمة، تفعل كل ذلك بإخلاص وتفانٍ. كل ذلك من أجل أن تنقذ أرواحهم. هذه المرأة وهبتها الطبيعة مزاجا حساسا للغاية، لكنه أفسد بسبب الدين."
في هذه القرية الصغيرة، وهذا القصر الخانق، في كنف هذا الأب الغريب، وهذه الأم القاسية، نشأ جياكومو. كان متوقعا منه أن يصبح رجل دين. كانت أمه تلبسه مسوح الرهبان منذ طفولته. يروي جياكومو أنه أجبر على النظر إلى جثة أخيه المتوفي في مهده وهو لا يزال طفلا دون السادسة. القس الذي كان موكلا بتعليمه لم يعد بإمكانه أن يدرسه أي شيء فلقد فاق جياكومو معلمه وهو لا يزال في الحادية عشرة. وهكذا انكب الطفل العبقري على المجلدات في مكتبة أبيه، فعلم نفسه اللاتينية واليونانية والعبرية والفرنسية والإنجليزية. كان اهتمامه في البداية منصبا على فقه اللغة philology واللسانيات، وهو ما وهبه مخزونا لغويا هائلاً سيفيده لاحقا بعد أن يتجه إلى الشعر. كان اكتشافه سحر فيرجل وهوميروس وسوفوكولس نقطة تحول في حياته. بالرغم عن عزلته في قريته الهادئة عن الحراك الفلسفي في فرنسا وألمانيا، إلا أنه علّم نفسه الفلسفة انطلاقا من حكمة الإغريق، ثم تقدم بمفرده، فعالج مسائلا غير مطروقة في دفتر ملاحظاته Zibaldone لن تلتفت إليها الفلسفة إلا في القرن العشرين. هذا الحدب على القراءة والدرس أفسد عينيه، فلم يعد يتحمل الضوء الساطع، وفي نفس الوقت بدأ عموده الفقري بالتشوه والانحناء لتظهر حدبة واضحة تشوّه ظهره. حاول عمه الذي يعيش في روما أن يقنع والده باصطحابه معه كي يخلّصه من هذه الأجواء القاتمة وليتعافى، لكن والده الذي كان متعلقا به رفض ذلك كل الرفض. لم يكن يسمح لجياكومو بالخروج من القصر إلا بمصاحبة المربين والخدم. ضاق جياكومو بهذا الجو الخانق، وأخذ يتطلع إلى التواصل مع الأدباء المعاصرين في روما وبيزا وفلورنسا، لكن والده بقي له بالمرصاد. في إحدى المرات حاول جياكومو الحصول على جواز سفر والهرب من منزل أسرته لكن والده اكتشف الخطة وقرّعه تقريعا عنيفا. وهكذا رجع جياكومو إلى المكتبة خائبا حزينا، وقد امتلأ بقناعة مفادها خيبة المسعى البشري، وبأن الإنسان محكوم بالحزن والموت.
تصوروا معي؛ جياكومو يجلس في المكتبة منكبًا على كتبه. قماشة رثة تعلو كتفيه كي تمنحه بعض الدفء. الستائر مرخاة فوق الشرفات كي لا يضايق الضوء عينيه. الظلام يحيط به ويملأ روحه. ثم فجأة، يخترق صمت المكتبة صوت ملائكي. يترك جياكومو محبرته وكتبه ويتوجه كالمسحور إلى إحدى الشرفات كي يتسقط مصدر هذا الغناء الساحر. في الجهة المقابلة من الشارع جلست تيريزا فاتوريني، ابنة الحوذي الذي يشتغل عند والده. كانت يداها الصغيرتان تلعبان بخيوط المغزل، بينما الغناء ينبعث كالشفاء من ثغرها. أخذ جياكومو يتطلع إليها فإذا بالجروح تندمل داخله، ثم تطلع إلى الأفق خلفها، فإذا بالجبال تمتد ملتفة، وإذا بمياه البحر الزرقاء تتلامع غامزة دون نهاية.
بعد سنوات، سيتذكر جياكومو تلك اللحظة الساحرة ويستدعيها في واحدة من أشهر أناشيده. سيخبره أحدهم أن ابنة الحوذي الخاص بهم توفيت مصدورة بمرض السلّ. سيتذكرها بعد أن يترك منزل والديه فيذوق الفقر والخيبة واليأس في بيزا. سيتذكرها، ويستدعيها بالاسم الذي اختاره لقبا لها "سيلفيا"، وستصبح -بشبابها الضائع ووجهها الشاحب- رمزا لخيبة المسعى البشري وحتمية الحزن كإجابة فلسفية لسؤال الحياة. قصيدة "إلى سيلفيا" من أشهر قصائد اللغة الإيطالية وأكثرها حزنا. الرتم في شعر ليوباردي بطيء متأمل، والموسيقى حزينة هادئة. محبو شعره يزعمون أن لغته فريدة وصعبة، فالمفردات التي يستخدمها محدودة، لكنه كالثري الذي لا يستخدم إلا الجواهر من ثروته. ديوان أناشيده المعروف بالـ Canti من أعذب دواوين الشعر التي قرأتها وأحبها إلى قلبي. رغم أن أناشيده لا تتجاوز الخمسين، إلا أن كل واحدة منها عبارة عن تحفة فريدة. لم يترجم ديوانه بعد إلى العربية. من أراد القراءة له بالإنجليزية فليقرأ ترجمة جوناثان جالاسي أو ج. نيكولز. هذه ترجمة سريعة قمت بها لقصيدته "إلى سيلفيا" ..
إلى سيلفيا
سيلفيا؛ أما زلتي تتذكرين
تلك اللحظة في حياتك الفانية
حين جلستي -ويالجمالكِ-
بعينيك اللامعتين وهما لا تبارحان الأرض،
كنتي بالكاد تفكرين بالمضي
عبر ذاك الباب تاركة شبابكِ خلفه؟
الغرف الهادئة دوّت
وكذا الأزقة
بصوت أغنيتك الأبدية
بينما كنتي مستغرقة في أعمالك المنزلية،
راضية كل الرضى
بذاك المستقبل السديمي الذي ادخرتي في عقلك.
هكذا كنتي تقضين في مايو العطري
سحابة يومِك.
تركتُ يومها دفتري جانبا
والمجلداتِ التي كانت سبباً
في استهلاك شبابي وإتلاف كل ما كان رطبا
غضا في إهابي.
ومن فوق شرفات منزل أجدادي
أصخت بأذني كي أسمع صوتكِ
وكيف أن كفكِ كانت تنساب رشيقةً
وهي تشتغل فوق خيوطِ النول.
تطلعت حينها إلى السماء الصافية
وإلى الأزقة والشوارع وقد اصطبغت عسجدًا،
ها هناك بدت الجبال،
وها هناك بحر بعيد،
ولا يمكن للسانٍ أن يصفَ سعادتي يومها.
أي أفكارٍ هانئة،
أي آمال، وأي قلوب، آهٍ يا سيلفيا!
كيف أن الحياةَ والقدر ظهرا لنا
وكما لو أنهما محمّلان نعيماً!
حين أتذكر الآن كل ذاك الأمل
تغمرني المرارة،
وأستشيط غضبا ضد حظي البائس.
آهٍ أيتها الطبيعة، أيتها الطبيعة،
لمَ لا تؤدين كل ما وعدتي به؟
لم تضللين أطفالكِ بوعودٍ كاذبة؟
مرِضتي، وقبل أن تذبل الأعشابُ في بردِ الشتاءِ
غُلبتي، ومتي، آهٍ يا طفلتي.
لم نرَ سنواتكِ تزهرُ شباباً،
ولم يتحصّل للرجال أن يحركوا قلبكِ
بإطرائاتهم عن شعركِ الأسودِ تارةً،
وعن الخجلِ المضطرمِ في عينيكِ تارة.
ولا أن تتحدثي مع رفيقاتكِ في الأعيادِ
بشوقٍ عن الحب.
ثمّ بعدَ مدةٍ وجيزة
ماتَ أملي أيضاً،
وحرمتني أمهاتُ القدرِ
حتى من الشباب.
ذهبتي؛ يا رفيقة أيامي البريئة،
ويا أملي الذي أبكي لأجله.
أهذا هو العالم إذن؟
أهذه هي الأفراح؟ العشق؟ والأعمال؟ وما
كنا نتحدثُ عنه في خلواتنا؟
أهذا مصيرُ الجنس البشري؟
تلك اللحظة التي ظهرت فيها الحقيقة
سقطتي. أيتها المسكينة: ومن بعيد
قادتني يدكِ وهي تشير بإصبعِ الموتِ الباردِ إلى
ضريحٍ عارٍ.
ترجمة: عدي الحربش
Oct 30 / 2013