في إحدى صباحات كانون الثاني الباردة 1778 م أفاق الشاعر فيلهلم فون
جوته ليراع بجثة فتاة تم انتشالها من نهر إيلم بعد أن انتحرت أمام منزله. حادثة
مرعبة، من شأنها أن تبعث القشعريرة في جسد الشاعر الشاب، وخصوصا أن الفتاة
البالغة من العمر ثمان وعشرين سنة كانت معروفة؛ كريستيانا فون لاسبيرج، ابنة
أحد ضباط فايمار، و من آنسات البلاط. لكن ما زلزل قلب الشاعر وجعل للحادثة وقعا
جسيما في نفسه هو أن الجثة الباردة كانت تحتفظ في ثيابها بنسخة من روايته سيئة الذكر (آلام الشاب فيرتر).
كان جوته في أوج شبابه، يبلغ التاسعة والعشرين من عمره، انتقل من
فرانكفورت إلى مقاطعة فايمار بدعوة من أميرها كارل أغسطس ليعمل
مستشارا عنده. قبلها بأربع سنوات نشر جوته روايته (آلام الشاب فيرتر) فحققت نجاحا
مدويا، وقفزت بمؤلفها الشاب إلى عالم الشهرة، لكن مسيرتها الناجحة تلطخت بحوادث
الانتحار التي ارتفعت بعد صدور الرواية. كانت تلك المرة الأولى التي يُكتب فيها عن
الانتحار بهذه الطريقة الممجدة المنتشية، وهو ما سيصبح تقليدا في الأدب الرومانسي
الذي يحتفي بالموت كقفزة نحو المطلق (سيشهد ذلك أعنف تمثل له في شخص
الأديب العبقري والمخبول هينريخ فون كلايست الذي قتل صديقته المصابة بداء
عضال ثم أفرغ رصاصة في جمجته على ضفاف بحيرة). تحكي (آلام الشاب فيرتر) قصة عاشق
شاب يقع في غرام لوته، زوجة صديقه، وعندما يجد نفسه أمام جدار مغلق لا يستطيع أن
ينال الوصل ولا أن يخون صديقه ينتحر كحل لمشكلته. انهالت اعتراضات النقاد
والمصلحين الأخلاقيين على جوته قائلين أن روايته تشجع على الانتحار، لكن الشاعر
الشاب –الذي اعتمد على تفاصيل عديدة من حياته في كتابتها- كان يجيب بعناد:
"ليس صحيحا، أنا أكبر دليل على أنها لا تشجع على الانتحار. مجرد حقيقة أني
كتبتها وعشت بعد ذلك شهادة على انتصار الانسان عندما يحول الألم إلى فن."
ولكن، كيف له أن يتصالح مع الألم وشعور الذنب والجثة الباردة
ملقاة الآن أمام منزله وتمسك بكتابه؟ ترى، هل أحس سالينجر بنفس شعور الذنب عندما
سمع أن قاتل جون لينون كان يمسك بروايته (الحارس في حقل الشوفان)؟ هل أحس كوبريك
بنفس الشعور عندما أشعل فيلمه (الساعة البرتقالية) موجة من العنف تشبه ما جاء في
الفيلم؟ هل أحس الموسيقار ريزو سيريس بنفس الشعور عندما أثارت أغنيته (الأحد
الكئيب) موجات من الانتحار؟ لا بالطبع، فالضحايا في الحالات السابقة لا تعدو أن
تكون أسماء بعيدة بلا معنى، أما في حالة جوته فهي جثة باردة حاضرة أمام منزله،
وذكرى يستطيع أن يمنحها وجها وصوتا. كان من شأن مثل هذه الحادثة أن تدفع أي فنان
إلى الاضطراب أو الشك في فنه، عدا جوته، فهذا الرجل الصارم ليس رجل انفعالات
كهولدرلن وكلايست ونوفاليس، وإنما هو رجل عقلاني مفرط في عقلانيته، تصل به
العقلانية حدود الأنانية الباردة، إنه التجسد الأمثل لعصر الأنوار، وهي المفارقة
الكبرى، أن يكون هذا الرجل معبود الرومانسيين، قدوتهم وعدوهم في نفس الوقت، هذا
الرجل الذي يؤمن حد الهوس بأولوية العقل النوراني.
قوة جوته –حسب مترجمه ديفيد لوك- تكمن في طبيعته البروتيانية Protean gift (نسبة لإله التحولات بروتيس). هذا الرجل
الألماني الصلب الذي يقطر شعره عذوبة ونغما كان يؤمن بقدرته على الانبعاث من جديد،
كان يحول كل تجربة مصيرية أو تافهة إلى مناسبة يطرح فيها جلده القديم لينبعث متوهجا
متجددا. هذه التجارب قد تكون علاقات غرامية، سفر إلى إيطاليا، التقاء بصديق من طراز هيردر وشيللر، موت قريب أو قريبة. إنه يحول كل تجربة مثل هذه إلى مناسبة
للانبعاث والولادة بقدرات جديدة وشباب غض. ما السر إذن في قدرة هذا الرجل
العجيبة على الانتاج -بدون كلل- خلال سنين حياته الثلاثة والثمانين؟ لا أعرف فنانا
آخر استطاع أن ينتقل بمهارة من السوناتة إلى البكائية، ومن الهيكساميتر إلى التيرزا
ريما، ومن الشعر إلى الرواية، ومن الرواية إلى المسرحية، بهذه المهارة وهذا
الاتقان مثل جوته. ذهب إلى المسرح فأنتج (فاوست). ذهب إلى الرواية فأنتج (فيلهلم
مايستر) و(تجاذبات اختيارية). لكنه يظل –وهكذا يجب أن يُعرف- شاعرا. لا تعرف اللغة
الألمانية شاعرا طوع مفرداتها الخشنة لتصبح نغما وموسيقى مثل جوته. ولا أظن أن
هناك شاعر له هذا العدد من القصائد التي حولت أغان مثل جوته (هينريخ هاينه قد يكون
المنافس الوحيد).
وهكذا، حوّل جوته هذه الحادثة المرتبطة بالألم والذنب إلى مناسبة لصنع
قصيدة. نهر إيلم لا يزال يتدفق بخريره العذب أمام منزله. إنه البقعة المفضلة لديه
كي يتجول ليلا ويتطهر أحيانا من متاعبه وسط مائه. ها هو البدر يملأ السماء
ويغمر الحقول بنوره الفضيّ. ها هي الأجمات والأحراش تطقطق أوراقها وهو يسير بقدمه
المثقلة فوقها. كيف سيحرر هذه الأماكن المحببة من الشبح العالق والذكرى المرة؟ جواب
جوته بسيط: اجعل لها صوتا! وهكذا، بدل أن ترتبط هذه الأمكان بالجثة
الباردة تصبح مرتبطة بقصيدة، ويتحول الألم والذنب إلى موسيقى ونغم.
قصيدة (إلى القمر) An Den Mond من أعذب قصائد جوته وأشهرها، وهي من القصائد
التي حولها الموسيقار شوبير إلى أغنية لاحقا. فريتز –ابن عشيقة جوته شارلوت- هو
أول من اقترح أن القصيدة كتبها جوته عن كريستيانا فون لاسبيرج؛ الفتاة التي وجدت
منتحرة أمام منزله. يضعف بعض النقاد والمؤرخون من هذا الاحتمال، لكني لم أستطع أن
أتخلص منه بعد أن قرأته، لقد اكتسبت القصيدة الآن معنى جديدا، حزينا وغنيا. لا يساعد الموضوع أن هناك أكثر من نسخة للقصيدة، وأن جوته اشتغل عليها
تنقيحا وزيادة حتى كادت أن تختفي ملامح الجثة لتصبح قصيدة تتحدث عن آلام شاب خانته عشيقته وهو يمشي متمهلا تحت ضوء القمر. لكن هل استطاع حقا التخلص من صوت كريستيانا
فون لاسبيرج؟ إني أستطيع أن أسمعها في كل بيت من القصيدة وهي تغني بصوتها الحزين
وقد تحررت روحها أخيرا تحت ضوء القمر.
إلى القمر
تملأ الأجمة والوادي
بوهجك السديمي الخافت.
أخيرا ستُحرِر
يا قمرُ كاملَ روحي.
ها أنت تنشرُ نظرتك
بحنانٍ فوق الحقول.
كما يلامس صديق
بنظراته قدري.
قلبي يستشعر صدى
الأيام الجميلة والمرة.
أتهادى في وحدتي
بين بهجة وحسرة.
تدفق، تدفق، حبيبي النهر،
أنا لن أغدوَ سعيدا.
ذهبت معك القُبل
والوفاء، والبهجة.
لكني مرةً ملكته
ذاك الثمين حقاً.
سأقاسي يقينَ أني
لن أنساهُ دوماً.
دمدم يا نهر، وسط الوادي،
دمدم دون توقف.
دمدم واهمس بأغنيتي
اعطها لحنا.
حينما يفيضُ ماؤك
في ليالي الشتاء
أو تنمو فوق ضفافِك
زهور الربيع.
مباركٌ هو من يعتزلُ
العالم دون أن يكره.
يضمُ إلى صدره صديقا
ومعه يتذوق؛
ذاك الذي لم يُعرف،
ولم يخطر بعقل.
يذرع متاهاتِ الروح
وسط الليل.
وسط الليل.
ترجمة: عدي الحربش
يا للجمال والروعة..
ردحذفسعيدة بعثوري على هذه المدونة وكأنني عثرت على مغارة مليئة بالكنوز.
شكرا شكرا أستاذ عدي الحربش
يكمن إبداع الكاتب في أنه يخرج برأيه الخاص فيما يقرأ أو يُشاهد .. ثم يصوغ هذا الرأي بأسلوب الناقد العارف والفنان الماهر ..
ردحذفوحين تكون للتو عدتث من زيارة لمنزل غوته في فرانكفورت فإن هذا النص يأخذ بعدًا حيّا .. بعداً آخر لا يمكن أن يشاركني فيه قارئ آخر !
سعيدة أنني قرأت هذا النص بعد تلك الزيارة ..
شكراً لك د.عدي