وقف إبراهيم أمام منزل خاله، نظر إلى شجرة النبق،
وابتسم. عشرون سنة أو تزيد، كانت كفيلة بتغيير مظهر الحيّ بكامله، إلا أنها لم
تمتد قيد أنملة إلى السدرة العتيقة والبيت الذي تجثم فوقه. تذكّر كيف كانا يقذفان شجرة النبق بنعليهما، وكيف كانا يقتسمان غلتهما حسب اللون: البني من نصيبه، والأخضر
نصيب أحمد. كانا إذا أنهكمها اللعب يستلقيان على ظهريهما، وينظران إلى السماء
والنجوم من خلال الفجوات العديدة التي تتخلل أغصان الشجرة، وعندها يسري خدر مريح في جسديهما، وكما لو أن المنزل بجدرانه الأربعة يسبح بهما عبر الفضاء، وأن هذا كله
يعتمد على وجود شجرة النبق، وأنها لو قطعت سيسقطان فجأة في القرار السحيق.
فتح أبو
أحمد الباب، وقاده إلى الداخل. لاحظ إبراهيم ثمار النبق ملقاة على طول الفناء وقد
انكمشت ويبست وذهب لونها. كان الهدوء يخيّم داخل المنزل، وهو شيء لم يكن
يتناسب وحجم الفضيحة التي انفجرت قبل أسبوع، تلك الفضيحة التي بقيت موضوعا تلوكه
الألسن في كل بيوتات العائلة. أحس إبراهيم بشيء من الضيق والخَرَق، ولولا مناشدة
أمه إياه لما وافق أن يدخل بيت خاله -بعد كل هذه السنين- في مثل هذه الظروف. طرق
الخال باب غرفة أحمد ليؤذنه بوجودهما، ثم أدار المفتاح في القفل، وسمح لإبراهيم
بالدخول ومعه صينية الشاي. بعد ذلك، سمع إبراهيم المفتاح يدور مرة أخرى وراء ظهره،
ليتركه وحيدا مع السجين، في غرفة مقفلة.
حدث الأمر
بهذا الشكل: قبل أسبوع، اكتشف الخال أن ابنه أحمد ينوي السفر إلى الشام للانضمام
إلى المجاهدين في "الدولة الإسلامية في العراق والشام". هل كان ذلك
بوشاية من صديق، أو بوقوع الخال على ما يشي بذلك في مراسلات وجوال ابنه؟ هذا أمر
تباينت فيه القصص والآراء. حاول الخال أن يصرف ابنه عن عزمه دون فائدة، وعندما
استيأس من ذلك، سحب أوراقه الثبوتية، وحبسه في غرفته، صارخا بأعلى صوته أنه لن
يخرجه إلا بعد أن يقسم بأغلظ الأيمان أنه لن يعود إلى سابق غيه، بينما سقطت أم
أحمد تبكي منهارة وراء الباب، ناشدة ابنها أن يمتثل لأمر والده، وأن يرحم ضعفها
ويحنو عليها.
مضى أسبوع
كامل والطرفان ثابتان لا يتزحزحان عن موقفهما. عندها ناشد الخال أخته كي ترسل
إبنها إبراهيم لعله يحدث بعض التغيير في موقف صديق طفولته. هتف إبراهيم محتجا:
"ولكني لم أره منذ عشرين سنة! ماذا عساي أن أقول وهو رجل بالغ بيّت أمره وعقد
عزمه، أنا لا أوافق حتى على حبسه بهذه الطريقة المذلة." لكن أمه أصرت عليه
إلا أن يلبي رغبة أخيها المكلوم. حدثته كيف أنه القريب الوحيد الذي يُعد من أقران
أحمد، وكيف أن الشباب يستمعون إلى بعضهم ويتأثرون أكثر بما يقولونه بينهم. ذكّرته كيف
أن الخال يحترمه كل الاحترام، ويعوّل عليه أشدّ التعويل.
وهكذا،
وجد إبراهيم نفسه أمام صديقه القديم في هذا الموقف الغريب. ابتسم إبراهيم بخَرَق،
وأنزل صينية الشاي كي يصافح أحمد. لشدّ ما تغير السنون الناس وتعبث بملامحهم! كان
أحمد هزيلا، كما عهده دائما، لكن شعرات لحيته المتفرقة، وابتسامته الهادئة، أضفت
إليه وقارا خجولا ذكره بالتصاوير الغربية التي تحاول أن تتخيل هيئة المسيح عيسى بن
مريم عليه السلام.
جلس
إبراهيم بجانب ابن خاله على الأرض، ونظر حوله في جدران الغرفة البيضاء وما يعلوها
من آيات وتسابيح، ولمّا لم يجد ما يكسر هذا الصمت الحرج، لجأ إلى ما يلجأ إليه الناس
عادةً عندما يعوزهم الموضوع وتعزّ عليهم الفكرة:
"الجو خانق في الخارج. حتى أثناء الليل."
"أهو
كذلك؟ كما ترى، لم أخرج منذ أسبوع من هذه الغرفة الباردة."
"أعانك الله. لا بدّ أن الأمر صعب عليك."
"هو
كذلك. لكنه قد يكون أصعب عليك. لا أتمنى أن أكون في مثل موقفك."
"لا
بأس. لم أرك منذ مدة طويلة. بالتأكيد لم أكن أتمنى أن أجدد بك العهد في وضع سيء مثل هذا، لكن -على أية حال- ها أنا أراك ثانية، وهو شيء كنت أتمناه منذ مدة، لكنها
الحياة والأشغال وما اعتدنا عليه من غلظة قلب وقطع رحم."
"جزاك الله خيرا."
"كيف
تقضي وقتك هنا؟"
"بالاستذكار والتذكر. سبحان الله، لا يصنع الله أمرا إلا وراءه حكمة.
كنت أحتاج إلى خلوة مثل هذه أنظم فيها أفكاري وأراجع سابق عملي. ماذا عنك؟"
"في
خلوة مشابهة، لكنها لحسن الحظ ليست قسرية كخلوتك،" ابتسم إبراهيم بمرارة،
وابتسم أحمد مثله، "أغلب وقتي أقضيه في قراءة الكتب وكتابة القصص."
"أما
زلت مهووسا بالكتب؟ أتذكر كيف كنت تأتي في طفولتك إلى دارنا والكتاب تحت ذراعك لا
يبارحها. لم نرك يوما دون كتاب. هنيئا لك هذه العزلة. ماذا تكتب؟"
"أقاصيص مختلفة، تستند معظمها على التاريخ. هل تعلم؟ كنت منهمكا مؤخرا
في التفكير في قصة عن مفهوم الهجرة."
"الهجرة؟"
"أي
نعم. ورغم أني فكرت في القصة طويلا إلا أني لم أكتب منها حرفا واحدا بعد. لا أدري
كيف أبدؤها. ربما إذا حدثتك عنها بصوت عالٍ ساعدني ذلك على الإمساك بخيط قد يكون
بداية لها. بداية القصص أصعب ما فيها. هل تريد أن أحكيها لك؟"
"بالتأكيد."
لم يدرِ
إبراهيم لماذا اختار هذه القصة بالذات! أو –بالأحرى- لم يفكر بهذا الاختيار مسبقا
ولم يمهّد له. هذا ما أخبر به نفسه بمجرد أن نطق كلمة "هجرة". كانت
عشرات القصص والمشاريع تطنّ في عقله. لماذا هذه القصة بينهنّ؟ لكن الجواب أوضح من
أن يخفى، بل إن في هذا النوع من التعامي والتضليل احتقار للنفس وللذكاء معا.
الهجرة! أليس هذه هي التسمية التي يستخدمها الشباب لوصف سفرهم إلى الشام؟
ماذا سيقول خاله وماذا ستقول أمه إن هما سمعا ناصحهما الأمين يحكي قصة عن فضل
الهجرة لرجل يفكر بها؟ لكن إبراهيم –حين كتبها- لم يفكر بالوضع الحالي ولا
بالسياسة ولا بما يجري حوله. لقد قرأ عن حادثة الهجرة، وأثارت في عقله بعض الأفكار
والصور، وكانت جميلة بما يكفي كي تملأ عقله وروحه. هذا كل شيء. القصة أجمل من أن
يكون في حكايتها شيء يضرّ. كما أنه نطق اللفظة السحرية، وأثار انتباه أحمد، ولا
يستطيع التراجع الآن.
"هي
ليست قصة أكثر منها أمثولة. أمثولة تستلهم قصة الهجرة النبوية وتعيد حكايتها من
وجهة نظر العنكبوت والحمامتين."
"ماذا تعني بأمثولة؟"
"قصة
تحكي عن شيء ما، وهي بحكايتها عن هذا الشيء تخبر عن كل شيء."
"أها. لكنك تعلم أن قصة العنكبوت والحمامة موضوعة؟ اتفق علماء الحديث
والتاريخ على ضعفها."
"أهي
كذلك؟ وماذا يعرف علماء الحديث والتاريخ؟ بالله عليك، لو جمعت أطفالا أمامك وقلت
لهم: سوف أحكي لكم قصة الهجرة النبوية الشريفة. ما أول شيء سوف يقفز إلى مخيلتهم
قبل أن تبدأ القصة؟ العنكبوت والحمامتين. أليس كذلك؟ لا أكتمك خبرا؛ لقد اكتملت
القصة في عقلي بهذا الشكل، ثم قرأت الكتب والمراجع فاكتشفت ضعف رواية العنكبوت
والحمامتين. آهٍ لو تعلم كم أسقط في يدي! لكني فكرت: ما الضير في ذلك؟ ما الضير إن
كانت أمثولة العنكبوت والحمامتين –كما تصورتها- تقول في جوهرها أكثر مما يفهمه كل
أساتذة الحديث والتاريخ مجتمعين عن مفهوم الهجرة؟"
"منطقك غريب. لكن هاتِ القصة، أو الأمثولة كما تسميها."
"الأمثولة، نعم. كما قلت سابقا، لا أدري كيف أبدؤها. أحيانا أفكر أن
أبدأها بالحديث عن محطات الطريق، طريق الهجرة، أن أبدأها هكذا: الطرق إلى يثرب جدّ
طويل؛ ثور فعسفان، قديد فالخراز، ثنية المرة فطريق العرج، ماء الغابر فبطن رئم.
الطريق إلى يثرب جدّ طويل، لكنه لم يكن أطول من حديث الحمامة وهي تحاول إقناع
صاحبتها العنكبوت ببناء النسج. هكذا أريد أن أبدأها، ولكني في كل مرة أبيت العزم،
أراجع نفسي، وأرى كيف أن هذه البداية متكلفة ظاهرة الصنع، فأعرض عنها. أحيانا أفكر
أن أبدأها بطريقة أسطورية، بطريقة تشبه قصص هانس كريستيان أندرسن السحرية. أن أقول مثلا:
هناك ياقوتة حمراء تلمع على ضفاف أحد أنهار الجنة. وهناك ريح تلعب ممهلة، أمام
الضفاف وبين الأشجار وفوق الياقوتة الحمراء. ثم أخلص إلى القصة لأشرح كيف أن هذه
الياقوتة الحمراء هي العنكبوت. وكيف أن هذه الريح الممهلة هي الحمامة."
"تكلفت شططا في قصتك. لا يجوز أن تخبر عن الجنة بما لم يرد عنها في
القرآن أو الحديث."
"صحيح، صحيح. ولهذا أعرضت عن هذا المطلع كما فعلت مع سابقه. المهم،
أننا نبدأ بطريقة ما لنجد أنفسنا في ذاك الصباح، أمام غار ثور، حيث وقفت الحمامة
أمام العنكبوت كي تقنعها ببناء النسج. كيف علمت الحمامة بقرب الهجرة؟ لا بدّ أن
هاتفا سماويا أو روحا من الأرواح ألقت في روعها أن محمدا صلى الله عليه وسلم سوف
يخرج مهاجرا إلى يثرب، وأن فتيان قومه وصناديدهم سوف يخرجون في إثره طالبين دمه، وأن
عليها أن تصنع عشها وتبيض فيه، وأن على العنكبوت أن تبني نسجها كي تضلل الطالبين
عن بغيتهم. لكن العنكبوت تعيش في تلك الزاوية المريحة من العالم، في ذاك الركن المظلم
من الغار، حيث لا تدري ولا يهمها أن تدري ما يجري خارجه. تستمع العنكبوت إلى جدلية
الحمامة الطويلة، تستمع وتستمع وتستمع، ثم إذا فرغت، تقول لها ما معناه: إنما هم
بشر تنازعوا أمرهم وحريٌ بهم أن يسووا الأمر بينهم، وحريٌ بي أن ألزمَ عشي، وأشبعَ
بطني، وأتعهدَ صغار بيضي. أحست الحمامة بخيبة كبيرة بسبب هذا الخذلان الغير متوقع.
طارت وتركت العنكبوت وراءها، في ظلها الظليل وعشها البارد، وطفقت تجمع أوراق الشجر
وأعواد النباتات كي تبني عشها المزموع جانب الغار. وفي العصر، أو المساء، أو في
فجر اليوم التالي –لم أقرر الوقت بعد- تهب ريح دافئة انبعثت من بطن مكة، وتخرج
العنكبوت إلى فم الغار ليقع بصرها على رجلين في مرمى البصر يسعيان مجدّين نحوها."
هنا،
اعتدل أحمد في جلسته، أو خيّل لإبراهيم أنه فعل، إن كان بالإمكان وصف هذا النوع من
الحركة التي تحدث داخل جسد الشخص دون أن تنقبض له عضلة أو يتحرك فيه عضو. إنه ذاك النوع من الحركة الذي يتخذه المنصت كي
يبقى منتبها لا يفوته شيء، دون أن يزعج محدثه. تابع إبراهيم:
"لكن
أنّى لي أن أصف ما رأته العنكبوت؟ أن أصف هذين الرجلين القادمين نحوها؟ كتب الحديث والتاريخ قد تسعف الآن. أحدهما كان أبيضَ، نحيفا، ناتيء الوجه، غائر العينين. كان يتقدم صاحبه، ويستطلع له الطريق، والخوف والقلق باديان على وجهه. أما الثاني،
فقد كان أدعجَ، سبط الشعر، سهل الخدين، كثّ اللحية، كأن عنقه إبريق فضة. إذا مشى كأنما ينقلع من
صخر، وإذا التفت التفت جميعا."
"ليس
بالطويل ولا القصير، كأنما العرق في وجهه اللؤلؤ."
ابتسم
إبراهيم للإضافة التي انتزعها أحمد من فمه.
"أنا
هنا لا أسميهما لأني أتحدث من موقع العنكبوت. لم تكن تعرف هذين الرجلين. ليس
بعد. لكن قاريء قصتي –بطبيعة الحال- سوف يعرف مباشرة عن من أتحدث. كما فعلتَ أنت. دخل
الرجل الأول الغار، كي يتأكد من خلوه من الوحوش والسباع. فحص الأرض بباطن قدمه،
وأدخل يده في كل جحر، فلقد كان خوفه على صاحبه، ولقد كان قلقه لأجل صاحبه، كان يحبه كل الحب، ويبجله أشد التبجيل. عندما تأكد من خلو الغار من الدواب والأفاعي
أشار إلى صاحبه كي ينضم إليه. دخل الرجل الثاني الغار، وبقيت العنكبوت مكانها تفكر
فيما رأت، لكنها سرعان ما دخلت هي أيضا كي تلقي نظرة أقرب على هذين الرجلين
المختلفين. لم تكن العنكبوت تفهم الكلام البشري. هذه نقطة مفصلية. لقد كانت تشاهد
بعينيها فقط، ولقد كان ما شاهدته كفيلا كي يزلزل عقلها وقلبها معا. كان العرق
يتصبب من الرجل الأول، الرجل النحيل غائر العينين، وكانت ركبتاه تصطكان فَرَقا،
وعندها، وضع الرجل الثاني يده على كتف صاحبه، وهمس له بشيء، وبمجرد أن قال هذا
الشيء توقف اصطكاك الركبتين وانقطع تصببُ العرق. لكن كيف أستطيع أن أصف هذه الحركة؟ هذا
الحنو اللانهائي في لمسة يده؟ كل تلك الطمأنينة وكل ذاك الحب المنسابين من راحة
يده حين وضعها مطمئنا فوق كتف صاحبه؟ وكيف كانت هذه الحركة، كيف كانت هذه الكلمات،
كافية كي تبدد مخاوف صاحبه، هكذا، دفعة واحدة، وكأنه نفخ على نار فأطفأها. كل هذا
شاهدته العنكبوت. المشهد لم يستغرق سوى دقيقة. لكنه كان من الضخامة بحيث لا
أستطيع أن أعبر عنه إلا بهذا الشكل الضخم. تذكّر مرة أخرى: العنكبوت لم تفهم شيئا
مما يقولان. لكنها كانت ترى، ولقد رأت في قسمات هذين الرجلين، وفي تلك اللمسة، ما
كان كافيا كي يجعلها تدرك الأمور على حقيقتها. انطلقت العنكبوت إلى فوهة الغار كي
تبني النسج. انطلقت وكل ذرة في كيانها تخبرها أن هذا ليس نزاعا عاديا أو شأنا
بشريا ليس لها علاقة به. الأمر أكبر من ذلك وأجلّ. إنها معركة بين الخير والشر. كل
ذرة في كيانها كانت تجزم بذلك. لم تكن تحتاج أن تنتظر كي تنظر إلى غرماء هذين
الرجلين وتتحقق. أيا كان هؤلاء الغرماء، إن مناصبتهم العداء لهذين
الرجلين -الحاملين لهذه القسمات، والقادرين على اجتراح حركات بالغة الحنو مثل هذه-
يضعهم مباشرة في الجهة المقابلة، في خانة الشر. هكذا قالت العنكبوت لنفسها. وهكذا
مضت تبني النسج لتنهيه في اللحظات القليلة التي سبقت وصول كفار قريش.
"وصل
فتيان قريش وفرسانها ومعهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم وتوقفوا أمام فوهة الغار. رأوا
أمامهم نسج عنكبوت لا يمكن لأحد أن يجتاز دون أن يتلفه. ورأوا عش حمامة بائضة لا
يمكن لأحد أن يمر بجانبه دون أن يفزعها ويضطرها إلى الطيران. وهكذا انصرفوا
خاسئين خاسرين. ولبث الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار ثلاثة
أيام بلياليهن. ثلاثة أيام، والعنكبوت تقف مشدوهة مكانها لا تريم، تراقب كل حركة
أو همسة أو بنتَ شفة يقوم بها الرجلان. تراقبهما حين يصليان، وحين يتحدثان همسا، حين
يأكلان، وحين ينامان ليلا. حدّثت نفسها قائلة أنها لم تنقذ الرجلين، وإنما أنقذت
نفسها حين نسجت العش. بعد ثلاثة أيام وصل عامر بن فهيرة –مولى أبي بكر وربيبه- ومعه
دليل من بني عدي. انطلق الأربعة في رحلتهم الطويلة نحو يثرب، تاركين الغار
والعنكبوت وراءهم.
"آهٍ
يا صاحبي، أيّ خواء وأية وحشة شعرت بهما العنكبوت حين رحلوا! وأية حياة وأي عش يمكن
أن تركن إليه بعد أن رأت هذين الرجلين لمدة ثلاثة أيام متتالية؟ كيف لها أن تنام
هانئة كما كانت تفعل قبل أن تراهما؟ كيف لها أن تشبع بطنها وتتعهد بيضها كما كانت
تفعل قبل أن تراهما؟ كيف لها أن تركن إلى هذه الزاوية المظلمة الباردة الهانئة،
وهناك معركة كونية تدور رحاها في الخارج بين الخير والشر؟ بين النور والظلام؟ بين الرجال
القادرين على ابتسامة مثل هذه، والرجال القادرين على تقطيبة مثل تلك؟
"وهكذا نزلت العنكبوت من عشها، وانطلقت متوجهة إلى يثرب. لكن الشمس
حارة، والعنكبوت صغيرة وبطيئة، والطريق إلى يثرب طويل طويل: ثور وعسفان، قديد
والخراز، ثنية المرة وطريق العرج، ماء الغابر وبطن رئم. هل بإمكان عنكبوت صغيرة أن
تقطع كل هذه المسافة؟ وسط الرمل، والشمس، والرمضاء؟ نعم يا صديقي، لقد ماتت
العنكبوت. ماتت في الطريق. أدركها الجفاف واشتد بها الحر حتى يبست وسكنت وتوقفت حركتها. لقد تحولت حجرا، ولو مررت بها لما استطعت أن تفرق بينها وباقي الحصى والحجارة الملقاة على طول الطريق. إنها قصة تدفع إلى اليأس. أليس كذلك؟ لولا أن صاحبتنا
الحمامة هبطت من السماء، وأطبقت عليها بمخالبها، وطارت إلى الأعلى. إلى الجنة.
ستسألني أين هي الجنة؟ كيف اهتدت الحمامة إليها؟ هل هي في الأعلى؟ هل هي إلى
الداخل، صوب القلب؟ هل هي جهة يثرب؟ أم أنها ملتقى هذه الطرق جميعا؟ لا أعلم يا
صديقي. لكني أرجح الخيار الأخير. أخذت الحمامة ترتفع أعلى، وتبتعد أكثر، إلى أن
جاوزت حدا شعرت بعده أن روحها تُنتزع انتزاعا. وعندما نظرت أسفل قدميها، تأكد ظنها،
عندما رأت أن ما بقي من العنكبوت تحول ياقوتة حمراء، نشرت نورها الساطع حولها، وأضاءت لها طريقهما إلى الجنة. وهذه يا صاحبي هي قصة الياقوتة الحمراء التي ترقد بسلام
على ضفاف الجنة، والريح التي تلعب ممهلة في جنباتها."
فرغ
إبراهيم من قصته، ونظر بخجل إلى صديقه فوجده صامتا لا يحرك ساكنا. لقد كان يتوقع مقاومة
أكثر، أسئلة واعتراضات وشيئا من العنف، لكن أحمد بقي صامتا يفكر. وعندما تكلم أعرب
عن عجبه كيف يقول إبراهيم أنه لم يبدأ بكتابة قصته، ولا يعرف كيف يكتبها، وهو يحفظ
في مخيلته كل هذه التفاصيل والتعابير والتشابيه التي أعادها –بكل تأكيد- على نفسه
مئات المرات؟
كان هذا
آخر عهد إبراهيم بابن خاله أحمد، قبل أن يسافر الأخير إلى الشام للجهاد. حدث ذلك
بعد أسبوعين من لقائهما. طرق الخال أبو أحمد الباب ذات مرة ليجد أن ابنه اختفى
ومعه أوراقه الثبوتية. بعد أسبوعين أو ثلاثة، علم الخال أن ابنه موجود في الشام،
وأنه انضم إلى الجماعات الجهادية أو الإرهابية كما يسميها البعض وينبزها البعض
الآخر. لقد كان مصابا جللا، وقع على الأم المسكينة وقعا صعبا، واضطرها أول الأمر
للذهاب إلى المستشفى. ولكن أحدا لم يدرِ كم كان الخبر قاصما وصعبا بالنسبة إلى
إبراهيم. لقد أحسّ بتأنيب هائل وهو يتذكر القصة التي حكاها لأحمد، عن
الحمامة والعنكبوت، والهجرة إلى يثرب. هل كانت قصته هذه الشعرة التي قصمت ظهر
البعير؟ أمن الصواب أن يحكي قصة مثل هذه
لرجل يفكر بالسفر للجهاد ويسميه هجرة؟ كانت هذه هي الأفكار التي تملأ رأس إبراهيم
وتقضّ منامه كلما رأى خاله أو سمع بانتكاس حالة زوجته.
وفجأة،
وبمثل الطريقة التي اختفى بها، عاد أحمد. رجع شخصا آخر، بعد ما يقارب الثلاثة
أشهر، بقسمات جديدة وروح مختلفة، بعد أن لقحته الحرب ووسمته بميسمها. كان للخبر
دويا هائلا في العائلة، وتحدث الجميع كيف أن الحياة رجعت لأم أحمد بعد أن رأت
ابنها، وكيف أن والده نسي كل اللعنات التي كان يطلقها وارتمى يقبل كفي ابنه ويطوقه
بذراعيه المتعبتين. كان الأمر لا يُصدق. وتمنى الجميع أن يلتقوا بأحمد ليسألوه عما
رأى وماذا فعل. وسرعان ما تحققت أمنيتهم، عندما أولم أبو أحمد على شرف ابنه العائد،
ووجه الدعوات إلى كافة أفراد العائلة.
كان إبراهيم من أوائل من توجه إلى الوليمة
تلبية للدعوة بصحبة والده. عندما دخل المنزل وجد فناءه نظيفا هذه المرة، خاليا من
ثمار النبق، ووجد الشجرة مقلمة الأغصان، مهذبة الورق. فكر إبراهيم: كم كان تصرفا عديم
الحساسية من قبل خاله، عندما وجه هذه الدعوة للجميع دون أن يراعي وضع أحمد، في هذا
الوقت وبهذا الحجم، من المؤكد أن أنظار الجميع سوف تنصب على صديقه المسكين وكأنه
طائر نادر أو تحفة عجيبة. عندما دخل المجلس رأى ما وافق حدسه، كان المكان يغص
بعشرات وعشرات من الأقارب، وكان اللغط يملأ الغرفتين المتصلتين وكأنه هدير موج
بعيد. سلّم إبراهيم على خاله، وهنأ صديقه بالسلامة، ثم جلس بعيدا حيث انتهى به
المجلس. من مكانه البعيد، لاحظ أن صديقه أحمد كان يرمقه بإصرار، ويوجه إليه
النظرات بين الحين والحين. أحسّ إبراهيم ببعض الحرج، وتذكر قصته والحديث الذي دار
بينهما قبل شهور، فعاوده شعور الذنب والخَرَق. حتى عندما انتقل المدعوون إلى
الغداء، كان أحمد يرمقه من بعيد ويحاول أن يسترق منه نظرة عارف. لم يُتح لإبراهيم
أن يتبادل أية محادثة ذات دلالة مع أحمد. ولكن عندما ودع وأبوه الخالَ وابنه، وهمّا
بالخروج من المنزل، لحق الأخير بهما، واستوقفهما تحت شجرة النبق. قام أبو إبراهيم
بالتخلص بلطف عندما استشعر حاجة الشابين إلى التحدث على انفراد.
شدّ أحمد
على يد إبراهيم بحرارة، وقال له:
"لا
أرى كتابا تحت ذراعك، هل تنكرت لعاداتك القديمة؟ ياله من حشد! لا
تستطيع أن توجه أية كلمة ذات معنى في مثل هذا العدد. أردت أن أشكرك يا إبراهيم،
فمن بين هؤلاء جميعا أنت الأقرب إلى قلبي، وكنت دائما في بالي. هل تتذكر أمثولتك
التي حكيتها عن العنكبوت والحمامة؟ آهٍ يا صاحبي، لن تصدق الأشياء التي شاهدتها
بعينيّ هاتين. لقد رأيت أعناقا تقطع، وجماجم تسقط، ودماء تسكب، وأناسا يُحرقون.
كنت حين يظلني الليل، أتذكر بيتي هذا، والسدرة التي لعبنا تحتها، وأمي، وقصتك عن العنكبوت
والحمامة والياقوتة الحمراء، ثم أتطلع إلى الرجال الذي ينامون حولي، وأبكي. كان
أكثر ما هالني اتهام الناس لنا أننا خوارج وكفار وأذناب لأياد خارجية. والأحاديث
والآيات يا إبراهيم، كان الفريق الآخر يستعمل نفس الأحاديث والآيات كي يكفرنا وليخرجنا
من الملة! آهٍ يا صديقي، لقد رأيت الموت رأي العين مرتين أو ثلاثا، وخرجت بحمد
الله سالما، وإن كان بقلب موجوع وضمير يسأل دائما: وماذا بعد؟ لم أجد من أتحدث معه
بحرية، كان الخوف والتربص يجللان الجميع، والخيانة عقابها القتل. لكن وسط هذه
القلاقل والخوف بقيت قصتك تدور في ذهني، وبالأخص ذاك المشهد العجيب، تلك النظرة
وتلك اللمسة التي أدركت العنكبوت إثرها أين الخير وأين الشر. هل تذكر؟ عندما وضع
الرسول صلوات الله وسلامه عليه يده فوق كتف أبي بكر. لقد عبّرتَ عن ذاك المشهد
بطريقة عجيبة، بودي لو كنت أحفظها. تلك النظرة يا إبراهيم، تلك النظرة! هي التي
أرجعتني. لقد كنت أبحث في وجوه أصحابي عن ما يملأني بمثل تلك النظرة، وعندما لم
أجدها، رجعت."
عدي الحربش
July 15 - 2014