في الثامن عشر من جولاي 1843، و تحت كآبتي زواج و ابتعاد ابنته الأثيرة ليوبلدين و فشل مسرحيته Les Burgraves، قرر فيكتور هيغو أن يمنحَ نفسه عطلة و أن يسافر بمعية عشيقته جولييت دراوت إلى أسبانيا. أسبانيا هي مرتع طفولة هيغو، حيث عاش مع أمه و أخيه في كنف والده الجنرال العامل في جيش بونابرت. رغم تطلع هيغو إلى هذه الرحلة، إلا أنه كان ممتلئا بمشاعر سوداوية طوال الوقت. حتى البحر الذي كان يبعث السعادة عادة في نفسه، لم يزدها إلا تجهما و تشاؤما. بعد شهرين، وصل هيغو إلى جزيرة أوليرون. في ذلك اليوم كتب في مذكرته الخاصة: "الموت في روحي... الجزيرة بدت و كما أنها كفن كبير مبسوط فوق البحر، و القمر مشعل فوقه."
قضى هيغو الليلة مع دراوت في فندق الجزيرة. في اليوم التالي عاودا السفر، و توقفا في طريقهما في روشفورت. كان عليهما الانتظار فيها لمدة ست ساعات قبل أن تستكمل العربة طريقها. في ساحة المدينة، و في مكانٍ يدعى (مقهى أوروبا)، جلس هيغو مع جولييت و طلبا بعض الجعة. أمامها على طاولة خالية، كانت الصحائف الباريسية ملقاة. سحبت جولييت جريدة Le Charivari و سحب هيغو صحيفة Le Siecle. كتبت جولييت في مذكرتها: "فجأة، انحنى حبيبي المسكين مشيرا نحو الصحيفة، قائلاً بصوت مخنوق: شيء رهيب حدث!.. شفتاه كانتا شاحبتين، عيناه حدقتا دون غاية، وجهه و شعره غارقان في العرق، يده المسكينة أطبقت فوق صدره و كما أنها تحاول منع قلبه من الانفجار."
ما قرأه هيغو في ذلك اليوم هو خبر غرق ابنته ليوبلدين مع زوجها تشارلز في نهر السين قبل خمسة أيام. ليوبلدين التي بالتو تزوجت، ابنته الكبرى الأثيرة، الأكثر شبها بوالدها، غرقت! و هو بعيد عنها و مشغول مع عشيقته بالتجول! نهض هيغو متحاملا و قال لجولييت أنه يجبُ أن لا يجذبا الأنظار. تركا القهوة و أخذا يمشيان بلا وجهة تحت الشمس الحارقة. توقفا مرتين، الأولى فوق كرسي صخري، و الثانية فوق العشب. كانت العجائز حولهما يغنين بإحدى قصائد هيغو. أرسل هيغو رسالة إلى زوجته آديل يقول فيها: "يا إلهي! ماذا فعلت بك؟"
عندما وصل هيغو إلى باريس كانت ابنته تحت التراب. لم يكتب أي شعر لمدة تزيد عن السنتين و النصف. بعد مرور عام، بدأ سلسلة من رحلات الحج نحو قبر ابنته في Villequire. لم يتجرأ على كتابة شعرٍ يرثي فيه ابنته إلا بعد مرور سبع سنوات، عندما أصبح منفيا في جزر القنال. هناك ضم مجموعة من قصائد المتفرقة في ديوانه الشعري تأملات Les Contemplations . قام بتقسيم الديوان إلى جزئين: الأول بعنوان (آنذاك)، و الثاني بعنوان (الآن).. و بينهما صفحة فارغة مكتوب عليها تاريخ وفاة ابنته ليوبلدين.
قصيدة (غداً، ساعة الفجر) Demain, des l'aube تُعد من أشهر القصائد الفرنسية على الإطلاق. تتألف القصيدة من ثلاث رباعيات متتالية، يتحدث فيها الشاعر عن عزمه على النهوض فجرا للسفر نحو قبر حبيبته كي يضع بوكيها من الزهور فوقه. بالطبع كل من قرأ القصيدة فهم أن المقصودة بها ليوبلدين، و أن المتحدث هو هيغو نفسه. القصيدة غُنيت مراتٍ عديدة، و هذه هي أفضل النسخ التي وجدتها في يوتيوب. أنا أسوق الفيديو مع الترجمة هنا كي يستطيع القارئ أن يفهم الكلمات و يستشعر جمال الألفاظ في نفس الوقت. لا تنشغلوا بالصور الموجودة في الفيديو فهي رديئة جدا، و كذلك الغناء، ركزوا فقط على الموسيقى الحزينة و النوح الحزين للكمان. و أنتم تقرؤون كلمات هيغو، تخيلوا معه الأرياف وهي تتلون بلون فضي عند الفجر، و الغابات الشاسعة التي يقطعها، و الجبال، و العجوز الذي يمشي محني الظهر مثقلا بالذنب كي يصل قبر ابنته الغالية ليوبلدين.
غداً، ساعةَ الفجر، عندما ما تبيّضُ الأرياف،
سوفَ أنطلق. أترين: أعلمُ أنكِ تنتظرين.
سأمضي عبر الغابة، سوف أعتلي الجبال.
لم أعدْ أطيقُ البقاءَ بعيداً عنكِ أكثر.
سوفَ أمشي و عيوني شاخصةٌ نحوَ أفكاري،
لن أرى شيئاً حولي، لن أسمع أيَّ نبهة،
وحيداً، مجهولاً، محدودبَ الظهرِ، معقودَ اليدين،
حزيناً، و اليومُ لديّ سيّان مع الليل.
لن أتطلعَ باحثاً عن الذهبِ في الغروب،
و لا الأشرعة البعيدة المغادرة صوبَ هارفلور
و عندما أصل، سوفَ أضعُ فوقَ قبركِ
إكليلاً من براعم الخلنج و الهولي الأخضر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق