هل سبق أن سمعت ببرونو شولز؟ أنا متأكد أنك لم تفعل. اطمئن، العيب لا يعود إليك، و إنما إلى المترجمين العرب، و الذين غالبا ما ينشغلون عن ترجمة الأجود بالرديء، بل إن مترجمي اللغة الإنجليزية يشاركونهم بعض هذا الذنب، و لولا نسخة إنجليزية يتيمة وجدتها بالصدفة في مكتبة بيع كتب مستعملة في سياتل لما دخلت عالم برونو شولز الساحر. لو سألتني عن أفضل كتاب القصة القصيرة قبل شهرين، لربما أجبت: بورخيس، بو، غوغول، كافكا، عدي الحربش.. إلخ.. أما الآن، فيستحيل أن أذكر القائمة دون أن أضع على رأسها هذا البولندي اليهودي.
كثير من النقاد يحب أن يعقد مقارنة بين شولز و كافكا، فالإثنان يهوديان، و الإثنان يكتبان بطريقة ساحرة غريبة ينعدم فيها الخط الفاصل بين الحقيقي و الفانتازي، و الإثنان مولعان بالكتابة عن أبيهما، الشخصية الأهم في حياتهما و أدبهما. لكن، شتان ما بين أدبي كافكا و شولز، فبينما يتعاطى كافكا مع الحاضر و المستقبل بكل ما يحملانه من قلقٍ و توجسٍ و عدم يقين، ينشغل شولز بالكتابة عن الماضي، و تحويل ذكرياته إلى ما يشبه الميثولوجيا الخاصة به. الوالد عند كافكا هو رمز السلطة و التجبر، أما بالنسبة لبرونو شولز، فإن والده جاكوب شخصية محبوبة يتعاطى معها بحنو، والده بالنسبة إليه شخصية دون كيخوتيه حالمة، تحاول أن تخوض حربا ضروساً ضد الحقيقة بماديتها و قساوتها و بشاعتها، شخصية درامية لأنها محكومة بالهزيمة و الانسحاق تحت ثقل المادة الضروس.
مع الأسف، لم يبق من تراث هذا الكاتب العظيم سوى مجموعتين قصصيتين، الأولى بعنوان: دكاكين القرفة the Cinnamon Shops، و الثانية بعنوان: مصحة تحت علامة الساعة الرملية Sanatorium under the sign of the hourglass. من أراد اقتناء المجموعتين يستطيع أن يبتاع طبعة دار بنجوين بعنوان: شوارع التماسيح و قصص أخرى The Streets of Crocodiles and Other Stories. قلتُ أنه لم يبق من تراث هذا الكاتب العظيم سوى هاتين المجموعتين لأن شولز قُتل بواسطة ضابط نازي من الجوستابو و هو في الخمسين من عمره، أما عمله الذي يُطلق عليه المسيح The Messiah فلقد اختفى، رغم أن بعض الرسائل تقترح أن شولز أرسل نسخة منه إلى صديقه الروائي الألماني الشهير توماس مان.
نهاية برونو شولز مأساوية بحقّ. كان شولز مدرساً في قريته، و كان يكسب لقمة عيشه من كتاباته و رسوماته. لم يسبق له أن خرج من قريته من قبل. اجتاح النازيون بولندا، و قتلوا أغلب اليهود، و لم يشفع لشولز سوى موهبته البارزة في الرسم. سمع أحد ضباط الجوستابو أن شولز رسام بارز، فاحتفظ به، و صار يحميه، و أمره أن يزيّن حائط الغرفة التي ينام فيها طفله الرضيع، و هكذا بدأ شولز يرسم و يزين الحائط بالأقزام و الجنيات و الساحرات و حوريات البحر. كان يدرك أن نهايته قريبة، و لذا أخذ يخطط للهرب قبل إنهاء الحائط، حتى إذا جاءت ليلة هربه، إذا بضابط جوستابو آخر يعترض طريقه. كان ذلك الضابط مغضباً من الضابط الذي يحمي برونو، ذلك أن الأخير قتل اليهودي الخاص به، و لذا كي ينتقم الضابط، أطلق الرصاص على برونو شولز، و أرداه قتيلاً.
حديثاً، و مع تصاعد الاهتمام ببرونو شولز، قام أحد المخرجين الأمريكين بتسجيل فيلم وثائقي يحاول من خلاله توثيق رحلته المعنية بالبحث عن الحائط الذي زينته رسوم شولز قبل مقتله. لم أر الفيلم، و لكن و حسب المقدمة المترجمة لشولز في كتابي، استطاع المخرج العثور على الحائط، و كما لو أن الأمر أشبه بالسحر، قام المخرج تحت تسيجل الكاميرا بإزاحة الغبار عن حائط قديم، لتظهر مئات الرسومات السحرية التي تنتمي إلى ريشة شولز. حصل نزاع حام على هذا الجدار، إذ تنازعت ملكيته كل من بولندا و اليهود و المخرج الأمريكي الذي اكتشفه. في الأخير، و كما هو متوقع، انتصر اليهود، لينتقل الجدار بالكامل إلى متحف إسرائيل!
مالذي يميز عالم شولز القصصي؟ شفافيته، و تماهي الحقيقي مع الخيالي فيه. لم أقرأ لشولز سوى مجموعته الأولى دكاكين القرفة، و أتطلع بشغف إلى قراءة مجموعته الثانية. المهمة التي كان شولز معنيا بها هي تحويل ذكرياته الخاصة بطفولته و عائلته إلى ميثولوجيا شخصية. هناك والده، جاكوب، الرجل الهزيل الحالم، و الذي اعتزل الحياة العملية، و صار منشغلا بتربية الطيور. هناك آديلا، الخادمة الشابة، الرمز الشهواني، و رمز السلطة النسائي، و التي كانت بقوةٍ ساحقة تخضع كل من بالمنزل و خصوصا جاكوب. في مشهد لا أستطيع أن أنساه، ينهمك جاكوب -والد الراوي- بالحديث مع شابتين يخطن الدمى، يخبرهما عن نظريته بخصوص الدمى و المنحوتات و التماثيل، و كيف أن هذه الأشكال الجامدة من المادة الخام تُحبس في عذابات هذه التعابير التي يختارونها لها. ينهمك جاكوب في شرح نظريته الغريبة، إلى أن تدخل الخادمة آديلا، ليتوقف جاكوب كطفلٍ ضُبط و هو يعمل شيئا غير مسموح، هنا تمدّ آديلا قدمها الصغيرة المكسوة بجرابها الشفيف، ليجثو جاكوب على ركبتيه مقبلاً قدمها، ثم ينصرف بانهزام. لم يصرّح شولز عن ما يرمز إليه والده و ما ترمز إليه آديلا، و لكن هذه المعركة المحتدمة بين الإثنين، هذه الهزائم المتعاقبة الحزينة لجاكوب، هذه الأشياء، هي ما تضيف السحر و الحزن إلى كتابة شولز.
ليس هذا و حسب، و إنما أيضا المكان و الزمان. عالم شولز غير تقليدي، و غير محصور. يخبرنا شولز أن والده قد يضيع في غرف الشقة العديدة أياما و أسابيع إلى أن يظهر أخيراً. شوارع المدينة تتمدد وسط الليل و تنبت دكاكين و أماكن كانت غير موجودة أثناء النهار. الرجل يرجع إلى ما يخاله بيته ليجد نفسه يدخل بيتاً مطابقا في الهيئة و لكنه يختلف عن بيته. حتى الزمن غير تقليدي، إذ أن الكتاب مقسم إلى ثلاثة عشر فصلا، ما يفترض أن يكون عدد شهور السنة، إذ أن السنة قد تتمهل أحيانا فيطول الشتاء أو الصيف، و قد ينمو أحيانا شهر ثالث عشر، شهر خديج مشوه، و كأنه أصبع ضامرة زائدة تُضاف إلى أصابع اليد الخمسة.
لو تحدثت عن افتتاني بشولز إلى ما لانهاية لن أوفيه حقه، و لذا، كي أنقل إلى القارئ فتنة نثر شولز و غرابة عوالمه، قمت بترجمة هذه القصة القصيرة من مجموعة دكاكين القرفة و اخترتها كعينة لأدبه. الترجمة سريعة و رديئة، و لكنها تظهر ما أريدُ أن تظهره من خصائص شولز النثرية الفاتنة: عالمه السحري، تداخل الحقيقي مع الفانتازي، معركة جاكوب مع آديلا، الشهوانية المتختبئة بين السطور، التعامل الشفيف مع الذكريات. اقرءوا القطعة كاملة، و ستدركون ما أعني.
الطيور
ها قد أتت أيام الشتاء الصفراء، مثقلة بالملل. الأرض المصطبغة بحمرة الصدأ غطتها قماشة الثلج المهترئة المثقبة. لم تكن هناك كمية كافية منه لتغطي كل الأسطح، و هكذا، ظهرت بعض تلك السطوح سوداء و بنية، مسقوفة بالألواح أو القش، أقواساً ممتدة من العليّات المغطاة بالرماد، كل واحدة تماثل رئةً سوداء متفحمة تعجُ بها الرياح الشتوية. مع كل فجر تظهر أكوام من المداخن الجديدة، انبثقت في ساعات الظلمة، حيثُ تنفخ عبرها الرياح الليلية، و كأنها الأنابيب السوداء لأورغان الشيطان. ضربات منظف المداخن لم تكن كافيةً كي تتخلص من الغربان التي تغطي كل مساء أغصان الأشجار المتحلقة حول الكنائس، وكأن الغربان أوراق سوداء حية، سرعان ما ستطير مرفرفة، لتعود مرة أخرى، كل واحد متمسكا بمكانه السابق على الغصن، لتبتعد أخيرا عند الفجر، كموجات رماد، كقطع وساخة، متموجة فانتازية، مسودّة بنعيقها غير المنقطع خيوط الضوء الصفراء العفنة. بدأت الأيام تتصلب بفعل البرد و الملل و كأنها أرغفة خبز من السنة الماضية. الواحد بدأ يقطعهنّ بسكاكين مفلطحة، بدون شهية، بلا مبالاة كسولة.
انقطع والدي عن الخروج منذ فترة. صار ينشغل بحشو المواقد و المداخن، و يستغرق بتأمل ذلك الكنه المخادع للنار. انهمك كذلك بتجربة الطعم المالح المعدني ذي الرائحة النفاذة التي تشبه رائحة السلامندر الشتوي الذي يلعق الرماد من حنجرة المدفأة. أخذ يتطوع بحماس لكل أنواع الأعمال الخاصة بترميم الأجزاء العلوية من الغرف. في ساعات النهار، يستطيع الواحد أن يراه مقرفصا فوق قمة سلم، يشتغل في إصلاح شيء معلق بالسقف، في عرى النوافذ الطويلة، في الأوزان و السلاسل الخاصة بالقناديل المعلقة. متبعاً عادات صابغي البيوت، كان يستعمل سلماً يتكون من درجتين إثنتين، من هناك، كان يحسُ بسعادة غامرة و هو يطل من أعلى، قريباً من السماء و الأغصان و الطيور المطلية على سقف الغرفة. بدأ يبتعد أكثر و أكثر عن المشاغل اليومية العملية. عندما تحاول أمي القلقة و غير السعيدة على حالته أن تصرف انتباهه تجاه الشغل و المستحقات الشهرية، كان يستمع إليها بعقل غائب، و القلق يظهر على محياه الساهم. أحياناً، كان يوقفها بإشارة من يده، ليعدو إلى زاوية الغرفة، حيثُ يلصق أذنه إلى أحد الشقوق في الأرضية، ليرفع السبابة في كلتا يديه، مؤكداً خطورة البحث الذي يقوم به، و بعدها يستغرق في الإنصات بانتباه. في ذلك الوقت، لم نكن نفهم العلة الحزينة التي انبثقت منها كل هذه التطرفات الغريبة، ذاك المركب البغيض الذي كان ينمو رويداً داخله.
أمي لم تكن تملك أي تأثير عليه، و لكنه كان يولي الكثير من الاحترام تجاه الخادمة آديلا. كان تنظيفها لغرفته طقسا مهما عظيما بالنسبة إليه، كان حريصاً دائماً على التواجد أثناءه، ليراقب جميع تحركات آديلا بمزيج من القلق و الإثارة المستمتعة. كان يولي جميع أعمالها معانٍ رمزية ذات دلالة عميقة. عندما تبدأ الفتاة –بحركات فتيّة قوية- بمجاذبة المكنسة الطويلة و تحريكها فوق الأرضية، والدي كان بالكاد يتنفس. الدموع تبدأ بالتساقط من عينيه، ضحكات مخنوقة تشوه وجهه، أما جسده فلقد كان يهتز بالكامل مأخوذاً بتقلصات النشوة. لقد كان ضعيفاً و حساسا إذا ما تعلق الأمر بالدغدغة إلى درجة الجنون. كان يكفي لآديلا أن تحرك أطراف أصابعها أمامه مصطنعة الدغدغة، ليركض كالمذعور عبر جميع أبواب الغرفة، صافقا وراءه الباب تلو الآخر، إلى أن يسقط أخيراً فوق سرير أبعد غرفة، مهتزا و متشجنا من الضحك، متخيلاً الدغدغة التي لم تكن محتملة من قبله. من أجل ذلك، كان سلطان آديلا على والدي بغير حدود.
في تلك الفترة، بدأنا نلاحظ للمرة الأولى شغف والدي العجيب بالحيوانات. لقد كان مزيجاً من عاطفتي الصياد و الفنان داخله، و لربما كان كذلك تعاطفا بيولوجيا ذا صفة أعمق من قبل مخلوق ما تجاه أشكال أخرى من الحياة، أشكال يحسُ بالانتماء إليها إلا أنها مختلفة، نوعا من التجريب في المناطق الغير المكتشفة من الوجود. لم تتخذ الأمور ما اتخذته من طبيعة معقدة ملتوية آثمة إلا في المراحل الأخيرة، و هو موضوع من الأفضل أن يبقى مطمورا بعيدا عن ضوء النهار.
لقد بدأ كل الأمر بمشروع حضّانة بيض الطيور.
بمزيج باهض من الجهد و المال، قام والدي باستصدار بيض طيور من هامبورج أو هولندا أو بعض الحدائق الحيوانية من أفريقيا، قام بذلك و وضع البيض في حضانة دجاجات هائلة الحجم من بلجيكا. لقد كانت عملية مثيرة استأثرت باهتمامي أنا أيضاً- تفقيس هذه الكتاكيت و الأجنة، و التي كانت تشوهات حقيقية و مريعة من كل الأشكال و الألوان. لقد كان من الصعب أن تحزر من خلال هذه الوحوش ذات المناقير الخلابة التي كانت تفتحها بالكامل بمجرد ولادتها، مزقزقة بجشعٍ لتظهر مؤخرات حناجرها، هذه السحالي ذات الأجسام العارية الضعيفة المحدودبة، أقول أنه كان من المستحيل أن تحزر مستقبلها، أيها سيغدو الطاووس و أيها الدرّاج و أيها القنبرة و أيها الكندور. متروكةً وسط الظلام في هذه السلال المبطنة بالقطن، أخذت عوائل التنين هذه تتمايل بأعناقها الهزيلة محشرجةً دون صوت عبر حناجرها الغبية، ليدخل والدي متمايلا بين الأدارج، لابسا مئزرته الخضراء، و كأنه بستاني يعمل في مستدفأ صبّار، ليصنع من اللاشيء هذه الزقازيق العمياء، هذه الفقاعات المتفجرة حياةً، هذه البطون العنينة التي لا تستقبل من الخارج إلا ما يأتي على شكل أكل، هذه التبرعمات على سطح الحياة، تتسلق بعمىً تجاه الضوء. بعد بضعة أسابيع، عندما تفتحت هذه البراعم العمياء من المادة، امتلأت الغرف بالضجة الساطعة و الزقزقة المتصاعدة لهذا الفصيل الجديد من الساكنين. جثمت الطيور فوق مخمل الستائر، فوق دواليب الملابس، بدأت تعشعش فوق كومة الأغصان المعدنية و اللفائف الزجاجية للمصابيح المعلقة.
كلما انكبّ والدي على مجلداته الأورنيثيولوجية الخاصة بعلوم الطير، كلما أخذ يتطلع و يدرس صحائفها الملونة، كانت هذه الخيالات الريشية تبدو و كما لو أنها تخرج من الصفحات لتملأ الغرف بالألوان، ببقع من القرمز و أشرطة الياقوت و الزنجار و الفضة. في وقت الإطعام، كانت تصنع سريراً مبهرجاً متموجاً على الأرض، سجادة حية من شأنها عندما يدهمها زائر دخيل أن تتمزق و تتفرق لتتحول إلى مئات القطع المحلقة في الهواء لتستقر أخيراً عاليا تحت السقف. أتذكرُ بصفة خاصة طائر كوندور ينتمي إلى فصيلة العقبان، طائراً ضخماً بعنق جرداء، وجهه مجعّد و متدلي. لقد كان زاهداً ناحل الجسم، شيئا يماثل العابد البوذي، ممتلئاً بكرامة عصية متمنعة، متقيداً بالطقوس القاسية الخاصة بأبناء جلدته. كلما جلس قبالة والدي، ساكناً، على هيئة التماثيل الفرعونية، و عيناه مغطيتان بالماء الأبيض، مما يحدو به أن يحركهما جانبا ليغلق نفسه بالكامل على تلك الهيئة المتأملة الوحيدة- كلما فعل ذلك، خيّل لي أنه شقيق أكبر لوالدي. جسمه و عضلاته تبدوان من نفس المادة، لديه نفس الجلد القاسي المجعد، نفس الوجه العظمي الجاف، نفس المحجرين المتصلبين العميقين. لم أكن أستطيع مقاومة ذاك الانطباع –كلما حدقت به و هو نائم- أنني موجود في حضرة مومياء- مومياء مجففة منكمشة لوالدي. أنا أؤمن أن والدتي أيضا لاحظت هذا الشبيه العجيب، رغم أننا لم نناقش الموضوع ألبتة. إنه لمن المهم ملاحظة أن الكوندور كان يستعمل نفس المبولة الخاصة بوالدي.
رغم تفقيس المزيد و المزيد من الفصائل، لم يحس والدي بالاقتناع، مما حدا به أن يرتب زواجاتٍ بين الطيور المختلفة في العليّة، بل بدأ يرسل الخاطبات، و قام بتقييد الطيور المتلهفة الجذابة إلى الشقوق و التجاويف تحت السقف، و سرعان ما غدا سقف منزلنا –ذاك السطح المزيّق المسقوف- سرعان ما غدا فندقاً للطيور، سفينة نوحٍ قصدتها جميع أنواع المخلوقات الريشية من بعيد. حتى بعد زمن طويل من القاصمة التي حلت بجنة الطيور تلك، استمر هذا التقليد سائراً في العالم الطيري، و كلما حلت الهجرة الربيعية، إذا بسقفنا يُحاصر بواسطة فصائل كاملة من طيور الكركي و البجع و الطواويس و غيرها من الطيور. و لكن، و بعد فترة قصيرة من البريق، إذا بالمشروع بكامله يأخذ منعطفاً حزيناً.
سرعان ما أصبح من اللازم أن ينتقل والدي إلى غرفتين أعلى المنزل كانتا تُستخدمان في خزن الأغراض. كان بإمكاننا أن نسمع وقت الفجر الضجة المتداخلة من أصوات الطيور. الجدران الخشبية لغرف العليّة –بمساعدةِ رنين المساحة الفضاء تحت القبة- صوتت بالهدير و الرفيف و النعيق و الغرغرة و بصيحات الجماع المنتشية. لأسابيع عديدة، اختفى والدي و لم يعد بالإمكان العثور عليه. كان نادراً ما ينزل إلى الشقة، و عندما يفعل، كنا نلاحظ أنه قد انكمش، أنه قد أصبح أصغر و أنحف. أحيانا عندما ينسى نفسه، يقوم بالنهوض من كرسيه مقابل الطاولة، ليبدأ بالرفرفة و تحريك ذراعيه و كما لو أنهما جناحين، بينما يصدر صوت نداءٍ طيري، لتغطي عينيه سحابة من الماء. بعدها، و كما لو أنه انحرج، يقوم بمشاركتنا الضحك و تحويل الحادثة بأكملها إلى شيء يشبه النكتة.
في أحد الأيام، أثناء أعمال التنظيف الربيعية، ظهرت آديلا فجأة في مملكة والدي الطيرية. توقفت عند المدخل، لوحت بيديها في وجه الرائحة النتنة التي كانت تملأ الغرفة، أكوام البراز المتناثر على الأرض، الكراسي و الطاولات. بدون أي تردد، قامت بفتح الشرفة على مصراعيها، و بمساعدة مكنستها الطويلة، تمكنت من بعث كامل الكتلة الطيرية إلى الحياة. سحابة وحشية من الريش و الأجنحة تصاعدت مستنجدة، أما آديلا –و كما لو أنها إلهة غضب رومانية تمسك بعصاها العاجية- فلقد رقصت رقصة الدمار. حاول والدي –و هو يرفرف بهلع بذراعيه- أن يرتفع بنفسه عبر الهواء كي يرافق قطعيه الريشي. رويدا، رويداً، بدأت سحابة الأجنحة بالانحلال حتى لم يبق في النهاية سوى آديلا في ساحة المعركة، و هي تلهث مقطوعة النفس، و كذلك والدي، و الذي الآن –و بعد أن امتقع وجهه بنظرة قلق ذليلة- صار بإمكانه أن يتقبل الهزيمة الكاملة.
بعد لحظات، نزل والدي للأسفل- رجلاً محطماً، ملكا مخلوعا منفيّاً خسر عرشه و مملكتَه.
ترجمة: عدي الحربش
May 15 / 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق