فكرتُ –مرةً- كيف أنّ ثيوقراطيس غنّى
عن السنوات الجميلة، السنوات المُتمناةِ العزيزة،
و التي تظهرُ -كل واحدةً منها- حاملةً فوقّ كفٍ كريمة
هديةً للفانين؛ عجائزهم و أطفالهم،
و بينما كنتُ أقلّبُ تلك الفكرةَ عبرَ لسانهِ الأثريّ،
شاهدتُ من وراءِ دموعي رؤياً تدريجية:
السنواتِ العزيزةَ الحزينة، سنواتي الكئيبة،
سنينَ حياتي، و التي كانت تلقي –الواحدة تلو الأخرى-
بظِلالِها فوقي. مباشرةً شعرتُ به،
وسط غمرةِ نشيجي، كيفَ أنّ شكلاً باطنياً تسللَ
خلفي، ليسحبني إلى الوراءِ جاذباً شعري
صوتهُ رددَ في سيادةٍ، بينما كنتُ أقاوم:
"احزري الآن، من يمسكُ بكِ!"—"الموت،" أنا قلت،
ها هنا، دوّى الصوتُ الفضي: "ليسَ الموت، بل الحبّ."
(إليزابيث باريت براونينج)
المقطوعة المُترجمة بالأعلى هي أولى السوناتات التي كتبتها إليزابيث باريت بعد أن تزوجت برفيقها الشاعر روبرت براونينج و فرّت معه إلى إيطاليا. بوّدي لو أن الجميع قرأها بأصلها الإنجليزي Sonnets from the Portuguese و الذي أخلت به الترجمة كثيراً. لا بدّ -حينما تقرأ- أن تُصاب بالدهشة بسبب الصورة التي افتتحت إليزابيث بها سوناتاتها الشهيرة: امرأة من العصر الفكتوري تجلس على الكرسي، تقرأ لثيوقراطيس بلسانه الأنتيكيّ بعض القصائد. ما تقرأه يجعلها تتأملُ في سنين حياتها الكئيبة السوداء. تحسُ باليأس، بالغصة، تحسُ أنها تكاد أن تسقط، لولا أنّ يداً بالغة القساوة، بالغة القوة، أمسكت بشعرها لتجذبها دون رحمة، و حينما سألها في تحدٍ من أنا؟ أجابت: الموت! فإذا بصوته البارد يدوّي: ليس الموت، و إنما الحب. هل سبق لكم أن قرأتم تصويراً مثل هذا للحب؟ لطالما قُرن الحب بالرقة و الحنان و التعهّد، ليس الصرامة و التقريرية الموجودة ها هنا. و لكن من يقرأ قصة حياة إليزابيث و علاقتها بزوجها روبرت سوف يفهم كل شيء.
نشأت إليزابيث في بيتٍ أبٍ صارم، غريب الطباع، شديد الأنانية، كان قد أثرى بزراعة قصب السكر في مستعمرة جامايكا. تلقت تعليما عاليا في طفولتها، فقرأت لميلتون و شكسبير، و أجادت اللاتينية و الإغريقية. أمضت طفولتها في الريف، حيث ابتاع والدها قطعة أرضٍ واسعة، و خصص في بيته غرفةً كبيرة لإليزابيث، بزجاجٍ ملون، و حديقة كانت إليزابيث تتعهدُ فيها زهورها البيضاء. ليس للأم موقع في حياة إليزابيث، إذ يبدو أنها ماتت في سنٍ مبكرة. الأبُ كان موجوداً، كان محباً، و لكن هذا الوجود و هذا الحب سوف يتخذان صورة مرضية مع الأيام.
في سن الخامسة عشرة، سقطت إليزابيث من فوق فرسها ليُصاب عمودها الفقري، كانت تلك نقطة تحوّلٍ في حياتها التعيسة. لم ينتج من تلك الإصابة شللٌ أو عاهة، و لكن أبوها كان يُصرّ عليها بحدبه الأبوي على ملازمة الفراش، أن لا تبرحَ مكانها، و لا حتى تنتقل من غرفةٍ إلى غرفة. هذا الإصرار ازداد حدة بعد انتقالهم إلى بيتٍ جديدٍ مظلم في شارع ويمبول. استطاع أبوها بطريقةٍ ما أن يقنعها أنها مريضة، أنه غير مرجو برؤها، أن مصيرها الموت و فقط، و هكذا وقعت إليزابيث ضحية ما أسماه الأديب تشيسترتون -و أنا آخذ منه الكثير من تفاصيل هذا القصة- أكثر الأجواء تسميماً و تحطيما الروح: المناخ الطبي. الأدهى من هذا، أن إدوارد باريت كان يمنع بناته من الزواج، و يهددهن أنهُ سيتبرأ منهنّ و ينزع حقهنّ بالتركة إن هنّ تزوجنّ. بسبب كل هذا، لم يعد أمام إليزابيث إلا أن تلجأ إلى الأدب كحياةٍ ثانية تهرب إليها.
نشرت إليزابيث مجموعتها الشعرية الأولى في سن العشرين، و سرعان ما اشتهرت، لتصبح أشهر شاعرة في بريطانيا و إنجلترا الجديدة، إلى درجة أنّ هناك من سيأتي في المستقبل ليقترحها كوريثة عرش الشعر الإنجليزي Poet Laureate بعد موت وردزورث. مجموعتها قصائد Poems و التي نُشرت في عام 1844 حققت نجاحا باهراً، حتى إدغار آلان بو صاحب اللسان السليط و النقد اللاذع لم يجد أمامه إلا أن ينثني عليها. هذا النجاح كان من شأنه أن يقلب حياتها رأسا على عقب، إذ أنهُ جلبَ إليها انتباه شاعرٍ شاب يُدعى: روبرت براونينج. كان روبرت يصغر إليزابيث بثمان سنوات، و كان نجمه في صعود، إلا أنهُ كان أقل شهرة من إليزابيث باريت. أرسل روبرت براونينج إلى إليزابيث رسالة يعبر فيها عن إعجابه. يقول في الرسالة:
"منذُ ذلك اليوم –قبل أسبوع- عندما قرأت قصائدك لأول مرة –أضحكُ الآن عندما أتذكر ما حصل- و أنا أقلبُ في عقلي المرة تلو الأخرى كيف يمكن أن أعبّر لكِ عن التأثير الذي صنعته بي، إذ أني فكرتُ –و أنا لا أزالُ أخامر أحاسيس النشوة الأولى- أنهُ يجدرُ بي هذه المرة فقط أن أخرج من عادةِ الاستمتاع السلبي –هذا إذا ما استمتعتُ حقيقةً- و أن أبررَ و أقفَ على سببِ إعجابي، ربما كما يجدرُ بزميل حرفة أن يفعل، أن أحاول و أجدَ خطأ، نقداً يمكنُ أن يفيدكِ و أن أفتخرَ به، و لكن دون طائل، لم يخرج مني شيء—لهذه الدرجة قصائدك تغلغلت داخلي، و لهذه الدرجة هو أصبحَ جزءاً مني، شعرُكِ الجميل، هذا الكائن الحيّ، لا توجد زهرة فيه لم تتخذ لها جذرا في روحي و تنمو—آهٍ يالعِظمِ الفرق ما بين هذه الزهور و تلكَ التي تُقطع و تُجفف ثم تُكبس لتصبح مسطحةً، و تُتجرُ و تقدّر، و توضع وسط كتابٍ مع عبارةٍ في الأعلى أو الأسفل، و يُغلقُ عليها إلى الأبد، و تُوضع بعيداً... ثمّ يسمون الكتاب "فلورا" بعد ذلك!"
عندما قرأت إليزابيث الرسالة أصيبت بنشوةٍ بالغة. هناك رسالة كتبتها إلى إحدى صديقاتها، تصفُ فيها تأثير رسالة روبرت براونينج فيها، و كيف أنها "رمتها في فوار من النشوة. ها هنا بدأت صداقة طويلة ما بين روبرت براونينج و إليزابيث باريت من خلال الرسائل، دون أن يتمكن روبرت أن يجتمع بها و لو لمرةٍ واحدة. عندما اقترح روبرت أن يزور بيتهم و يجلس مع عائلتها، حاولت إليزابيث أن تختلق عراقيل مختلفة، متعللة تارة بالمرض و تارة بالفصل غير المناسب من السنة و بالريح الشرقية، مما حدا بروبرت أن يجيبها: "لو تحققتْ أمنية قلبي، سوف تضحكين من الريح الشرقية كما أضحك." تحت وطأة هذا الإلحاح، بدأت إليزابيث بتقديم أعذارها الحقيقية، و الحديث عن ثقتها الهزيلة بنفسها: "ليس هناك شيء يستحق أن يُرى بي، و لا حتى أن يُسمع—أنا لم أتعلم أبدا كيف أتحدث كما تفعلون في لندن، لو أنّ الشِعر يساوي شيئا ما، فإنه كل الزهرة التي أملك. لقد عشتُ حياتي و كنتُ سعيدة أكثر شيء من خلاله. هو كل الألوان التي أملك، و ما عداه ليس سوى جذر، صالح فقط للتربة و الظلمة." ها هنا، جاءت إجابة روبرت براونينج مباشرة و حاسمة، كشخصيته تماماً: "سوف أدقُ باب داركم يوم الثلاثاء، الساعة الثانية."
في اليوم العشرين من مايو، 1845 التقى روبرت بإليزابيث، و وقع في حبها مباشرة. عندما عرض عليها الزواج، أجابته في رسالة: "سوف أخبركَ بما دار بيني و بين أخواتي ذات مرة، هو خير ما يُعبر عن حالي و إن كان مزحاً، لقد قالت أختي: لو أن أميرا من الإلدورادو جاء بنسبٍ عظيم ينتهى بالقمر من جهة، و في يده تذكرة تزكية على أخلاقه من أقرب كنيسة من جهة ثانية، لماذا! حتى حينها –قالت أختي آرابيل- لن ينفع كل ذلك مع أبي. و لقد كانت محقة. لقد كنا متفقين جميعا أنها كانت محقة."
قوبل طلب روبرت الزواج بالرفض من قبل الأب، و حتى الأطباء كانوا يرددون في أذن الأب و ابنته العليلة أن الحركة و التنقل و الإثارة سوف تتلف إليزابيث، فما بالك بالزواج! كان روبرت براونينج هو الوحيد الذي يرى في حالة إليزابيث شيئا مزيفا عفنا، و كان الوحيد الذي يردد: "أنتِ أجدر بأكثر من هذا، لقد قلتي هكذا و عملتي هكذا." اسمترت الأمور على هذه الحالة حتى تدهورت صحة إليزابيث تدريجيا، و عندها، أخبر الأطباء السيد باريت أنه من المحتم عليه أن يأخذ ابنته العليلة للاستجمام إلى إيطاليا. ها هنا رفض الأب، و كاد المُحطاون به أن يُجنوا بسبب هذا الإصرار و الرفض. عرضت عليه السيدة جيمسون –صديقة العائلة- أن تأخذ ابنته إلى إيطاليا معها و على نفقتها دون فائدة. صديق العائلة، كينيون، حاول معه المرة تلو الأخرى دون جدوى، ليهرع إلى بيت آرابيل باريت –أخت إليزابيث- مشتكيا سلوك أبيها غير المبرر. اشتهرت المسألة، و أصبح المجتمع اللندني يتهامسون بها، و هنا لم يجد روبرت براونينج أمامه إلا حلاً واحدا عرضه على إليزابيث: أن يتزوجان سراً، و من ثم يفران سوياً إلى إيطاليا.
كان الاقتراح من الجرأة و من الجنون بحيثُ ألقى بإليزابيث في حيرةٍ من أمرها. مثل هذا العمل سوف يلقي بسمعتهما إلى الحضيض، و لكن البديل هو أن تبقى حبيسة غرفتها و حبيسة المناخ الطبي القاتل الذي كان أبوه يفرضه عليها. ها هنا، و بعد أن اقتربت المهلة التي أعطاها روبرت للبت بقرارها بخصوص الموضوع، قامت إليزابيث بعمل شيءٍ يكاد ينمتي للعصور القديمة في تلقائيته و رمزيته (ها هنا أستعير من تشيسترتون من جديد): في اليوم الذي كان من الملزّم عليها أن تتخذ قرارا بشأن اقتراح براونينج، دعت أختها كي تأتي إليها، و أمام ذهول و رعب الأخيرة استأذنتها أن تستعير عربتها. استقلت إليزابيث العربة باتجاه حديقة الريجينت بارك لأول مرة، هناك، ترجّلت، و مشت فوق العشب، و أسندت ظهرها فوق شجرة لبعض الوقت، متطلعة حولها في الأوراق و السماء. بعد ذلك، دخلت إلى العربة ثانية، توجهت إلى البيت، و أرسلت لروبرت بموافقتهاعلى الخطة. يعلقُ تشيسترون على الحادثة فيقول: هذه الحادثة كانت أفضل قصيدةٍ صنعتها يدُ إليزابيث باريت.
و هكذا تسللت إليزابيث في أحد الأيام إلى كنيسة مجاورة في شارع ويمبول، و تزوجت بروبرت براونينج تحت مباركة رجل الدين. لم يشأ روبرت أن يسافر بها مباشرة إلى إيطاليا، إذ أن أعصابها كانت أضعف من أن تستحمل مفاجأة الزواج و مفاجأة السفر معاً. بعد انقضاء بعض الوقت، و عندما حان الموعد، سافر الإثنان قاطعين القنال، متجهين إلى إيطاليا. هزّت الفضيحة المجتمع البريطاني، و عمد أبو إليزابيث إلى التبرئ منها و نزع حقها بالتركة مباشرة. و لكن الزوجان الجديدان لم يكونا ليأبها لما يحدث هناك. لقد أدارا ظهريهما للحياة القديمة، و استقبلا بذراعيهما الحياة الجديدة. في إيطاليا، بدأ روبرت بأخذ إليزابيث في رحلاتٍ طويلة فوق الجبال، و تحت دهشة الجميع، زال مرض إليزابيث تماماً، بل اتضح أنها لم تكن مريضة أصلا و إنما تعيش في وهم المرض، و هكذا أثبت روبرت أنه كان محقا و أن الأطباء كانوا مخطئين. حملت إليزابيث بروانينج من روبرت و أنجبت ولدا مات في صغره. عاشت حياة بالغة السعادة، و ماتت بين ذراعيّ زوجها. في يوم وفاتها، أقفلت محلات القرية التي يقطنانها و نُشر السواد حِداداً على الشاعرة الشهيرة.
أرجع إلى مشهد إليزابيث و هي تقف مسندة ظهرها على أشجار الريجينت بارك فأصاب بالدهشة. لم تكن تفكرُ: هل أختار أبي أم عشيقي؟ لقد كان القرار أخطر من هذا و أعقد. كانت تحتاج إلى أن تخرج من سجن غرفتها كي يتحول السؤال إلى محور آخر تماماً: هل أختارُ الغرفة الكئيبة و الكرسي الجامد و النافذة المُغلقة، أم أختارُ الأعشاب الخضراء و الطيور المحلقة و النسمات الهيّنة العطرة؟ لقد كانت تلك النزهة السريعة في الريجنت بارك كفيلةً كي تساعدها على اتخاذ القرار. أرجعُ أيضاً إلى السوناتة التي وضعتُها في الأعلى فأفهمها. الصوتُ الفضيّ التقريري الذي فاجأها في وحدتها، اليدُ الرجولية القاسية التي جذبتها من شعرها و انتشلتها من سجنها: لقد كان صوت روبرت، لقد كانت يد روبرت.
* العبارة التي وضعتها تحت العنوان: أُجترئ و فُعل dared and done مستعارة من بيوغرافيا بنفس العنوان عن قصة حب روبرت و إليزابيث بروانينج. لم أشترِ أو أقرأ الكتاب، إلا أن تلك العبارة و صورة الشاعرين على غلافه كانت الشرارة الأولى التي أذكت فيني الاهتمام بقصة هذين الشاعرين. أغلب المعلومات التي نقلتها هنا مقتبسة من كتاب الأديب البريطاني ج. ك. تشيسترتون عن حياة و شعر روبرت براونينج. هناك فيلم أمريكي قديم يتناول نفس القصة بعنوان: The Barretts of Wimpole Street لم أشاهده رغم أن هناك نسخة تالفة منه في يوتيوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق