شكسبير و سيرفانتس، ما الذي يجمع بينهما؟
الجواب: أنطوني بورجيس.
قرأتُ قبل شهر قصة قصيرة رائعة للكاتب البريطاني أنطوني بورجيس Anthony Burgess بعنوان: لقاء في فالادوليد A Meeting in Valladolid. القصة موجودة في مجموعة بورجيس للقصص القصيرة مزاج الشيطان The Devil's Mode. ما دفعني إلى شراء المجموعة هو تجربتي الجيدة مع بورجيس في روايته الساعة البرتقالية، و الولع الذي أشاطره بورجيس في تناوله كل ما هو تاريخي و قديم و خصوصا الفترتين الإليزابثية و الفيكتورية. في نفس المجموعة يتناول بورجيس شخصيات تاريخية عديدة، ابتداءا من شكسبير و سيرفانتس، و مروراً بآتيلا الهان، و انتهاءاً بشرلوك هولمز، حيثُ يحضرهُ أنطوني بورجيس كي يحل لغزاً موسيقياً.
رغمَ أن سيرفانتس و شكسبير عاشا في نفس الحقبة إلا أنه لم يسبق لهما أن التقيا. سيرفانتس لم يسمع بشكسبير، و لكن شكسبير قرأ الترجمة البريطانية الأولى لكيخوتة حسب النقاد و المؤرخين. هذه الحقيقة التاريخية لم تمنع بورجيس من أن يجمع هذين الأديبين المختلفين و المتشابهين في نفس الوقت في ثنايا قصته القصيرة. لكي يفعل ذلك، يتصور بورجيس عُرساً ملكياً أقيم ما بين العائلتين الإنجليزية و الإسبانية كي يوثق العلاقات المضطربة ما بين البلدين. يخرج شكسبير و فرقته المسرحية ضمن الحاشية الإنجليزية، و يستمتع بورجيس باللعب بشخصية شكسبير، فيجعله يتقيأ بمجرد ملامسته اليابسة، و يفصّل عن عاداته و أكلاته و تصرفاته. يسمعُ شكسبير منذ البداية قصيدة لشاعر أسباني يذكر فيها كيخوته و حصانه الهزيل روسينانتي فيتساءل عن هويتهما، ثم يحضر مهرجانا للثيران، يتقدمه رجل نحيف و تابع بدين، فيشرحُ له المترجم الأسباني أن هذين هما دون كيخوته و سانشو بانزا، شخصيات انبثقت من رواية الأديب الأسباني سيرفانتس.
يُصاب شكسبير بالدهشة و الغيرة معاً، كيف يمكن لشخصيات خيالية أن تنبثق من كتاب؟ أن يعتنقها الشعب و تصبح جزاءاً من ثقافتهم إلى درجة أن يصبح كل شخصٍ هزيل طويل دون كيخوته. يتساءل مندهشاً: ماذا تعني بالرواية؟ يشرحُ المترجم الأسباني أن الرواية صنف يختلف عن المسرحية، هي كتاب يمتدُ لمئات الصفحات، كما أنهُ يحتوي الكوميديا و التراجيديا معاً.
تُشكِل هذه الحقائق على شكسبير، إذ كيف له أن يفهم هذا النوع الجديد من الأدب و الذي لم يُعرف بعد في إنجلترا. كما أنه يصاب بالخيبة و يحس بالعجز مقارنة مع هذا السيرفانتس الذي ألّف كتاباً يحوي العالم كله. يعرض المترجم الأسباني على شكسبير أن ينظم لقاءا بينه و بين سيرفانتس. يحدث هذا اللقاء، و يدعو سيرفانتس شكسبير إلى بيته القشيب، و الذي يعكس فقره المدقع. الطريف بالأمر أن اللغة التي يستعملها الأديبان الأوروبيان كي يتواصلا هي العربية، لغة الحضارة آنذاك، إذ أن سيرفانتس وقع أسيرا لسنوات في يد القراصنة الجزائريين، أما شكسبير فلقد سبق له أن سافر مع أمير إنجليزي إلى المغرب. لا أتذكر الحوار جيداً، و لكني أتذكر أن سيرفانتس حطّ من قدر التراجيديا و قال أن الإله كوميدي و لذلك الكوميديا فن أعلى بالنسبة إليه.
يخرجُ شكسبير مضطربا من هذا اللقاء، و يهرع إلى فرقته المسرحية ليعكر نومهم و يقضّ مضجعهم. يبدأ مجموعة من الاقتراحات و التعديلات أمام دهشة فرقته، فيقترح أن يطيل المسرحية إلى ثماني ساعات، و يقترح أن يبدأ المسرحية بهاملت (أكثر شخصياته تراجيدية) و يختمها بفالستاف (أكثر شخصياته كوميدية). في اليوم التالي، و أمام الجمهور الأسباني، تُقام المسرحية، و لكن هذا الخليط العجيب لا ينجح، فيخرج الجمهور متأففا تاركين شكسبير في قمة يأسه و حيرته.
يرجع الوفد الإنجليزي إلى الديار، و يموت شكسبير دون أن يجد حلاً يجعله يكتب شيئاً يماثل دون كيخوته في عظمتها و شمولها، و تشاء الصدفة أن يلتقي المترجم الأسباني بأحد ممثلي فرقة شكسبير و الذي جمع مسرحيات سيده المتوفي في كتاب واحد (الفوليو الأول First Folio). يتصفح المترجم الأسباني الفوليو الضخم بمسرحياته الستة و الثلاثين، ثم يقعُ على الاكتشاف الذي كان من شأنه أن يخفف يأس و قهر شكسبير لو قيل له أثناء حياته. صحيح أن شكسبير لم يكتب مسرحية واحدة كاملة شاملة تحتوي الدنيا بتراجيديتها و كوميديتها في آنٍ واحد كالكيخوته، و لكنه صنع شيئا مثل هذا بكتابته هذه القطع المختلفة التي عندما ضُمت إلى بعضها أصبحت دنياً معقدة و متكاملة. شكسبير اخترع الإنسانية كما يحبُ هارولد بلوم أن يقول the invention of the human. لا نستطيع أن نفكر بالغيرة من دون أن نستجلب عطيل، و لا بالتردد دون أن نستجلب هاملت، و لا بالحب دون أن نستحضر روميو و جولييت، و هكذا.
لقد صنع شكسبير دنياً تنافس أو تفوق في غناها و تعقيدها ما صنعه سيرفانتس، و لكنه لم ينتبه إلى ذلك لأنه صنعه في أجزاء. كان يحتاج إلى أن يرى كل هذه المسرحيات مجموعة في الفوليو ما بين غلافي كتاب كي يقع على هذا الاكتشاف و يصل إلى رضى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق