الخميس، 7 سبتمبر 2017

جماجم


"والآنَ تفتحُ الطحالب والأعشاب بأناملها الواثقة زهرة جُمجمتِه."

(فيدريكو جارثيا لوركا)

( 1 )

انتهت المعركة، وهبط الليل، ودخل ابن هُبيرة  خيمته كي يغسل جراحاته ويزيل ما علاها من غبار ورهق. عندما خرج، ناوله عبده طُويس خرقةً مسح بها وجهه، ثم تقدم نحو التلة كي ينظر إلى الوادي العميق حيث دارت رحى المعركة. كان الدخان يتصاعد وكما لو أن الأرض تلفظُ ما علق بها من خَبَثٍ ودماء، وخيّل إليه أنه رأى روحًا أو روحين ترتفعان صارختين إلى الأعلى، وهبّت الريح فأخذت تدور غاضبةً حين لم تجد لها منفذا بين الجبال. أغمض ابن هبيرة عينيه، واستمع إلى الجوقة الرهيبة: كلاب تنبح، ورياح تزمجر، وخيول تصهل، وجرحى يئنون، وبكاء، وشيء ينفخ كما لو أنه كير حداد، وصوت يتصاعد متصلاً من باطن الأرض. عندما فتح عينيه، بصُر بفارس يتقدم نحوه، قدماه تخطّان على الأرض، وعندما ترجّل واقترب، رأى في هيأته ولبسه ما يدلُّ على أنه أحد الجند الخُراسانية.
   "أصلح الله الأمير، وكتب له العزة والنصر."
   "إنما نحن وأنتم جند الخلافة، ولقد أبليتم اليوم عن الإسلام والمسلمين أحسن البلاء وأصدقه."
   "سقط ابني أيها الأمير."
   "غفر الله له، وأبدله نُزلا في الجنة."
   أطرق الرجل برأسه ، وتململ مكانه، وعندما رفعه، رأى ابن هبيرة في سحنته شيئا أقرب إلى الخبل، كما لو أن سعار المعركة لم يفارقه بعد.
   "أصلح الله الأمير؛ عندما انتصف النهار، وكانت الدائرة علينا، سمعنا الأمير يصرخ: أيها الناس، أعيرونا جماجمكم ساعة، فأرخينا عمائمنا، وهززنا رماحنا، ثم حملنا على الخوارج حملة صدق، فأعملنا فيهم السيف، واضطررناهم إلى أن يلجأوا إلى الجبل، لم نرجع إلا بعد أن تخضبت السيوف، وتقصفت الرماح، وكان ولدي في جملة من سقط. فالآن بعد أن انقضت تلك الساعة، هلاّ أعاد الأمير عاريته؟"
   الرجل جدّ مخبول!
   "إنما هي كلمة تُقال حين يحمى الوطيس."
   "ما رأينا كاليوم قطّ! أمير يخلف وعده!"
   تقدّم الخُراساني نحو ابن هُبيرة، لكنّ الحرس اعترضوه وطرحوه أرضًا. تناهى إليهم صوت نباح كلاب، تذكر ابن هُبيرة كلمة قاضي القضاة عندما سهر عنده ذات ليلة في بغداد: نباح كلب يأتيك من بعيد أفصح دليل على الأبدية.
   أمر ابن هُبيرة حرسه أن يخلّوا الرجل. نهض، وسوّى عمامته، ثم هتف وهو ينطلق مبتعدا بفرسه: "الجراحات قصاص يا أبا العباس."
   تراجع ابن هُبيرة إلى خيمته. أملى كتابًا يزفّ فيه خبر النصر إلى الخليفة. بعد ذلك تفقد قادته، واستشار رجاله، وأصاب شيئا من طعام، لكن كلمة الخُراساني بقيت تلحُّ على أذنه: الجراحات قصاص يا أبا العباس! كيف عرف كُنيته؟ وما الذي دفعه لاستخدامها بدل كلمة الأمير؟ لعله الغضب! الجراحات قصاص! انقبض قلب ابن هبيرة، واستنكر طعم الأكل في فمه فأبعد القصعة، ثم دعا بخادمه طُويس، فأمره أن ينطلق الساعة إلى بغداد، ويقصد داره، ولا يبيت ليلته إلا وقد خرج بزوجته وابنه إلى أخوالهم في الأهواز. بعد ذلك، أمر قائد الخُراسانية أن يبحث برجاله بين الجثث عن فتى خراساني صفة والده كذا وكذا، أمرهم أن يأتوه برأسه.
   انطلق ابن هُبيرة بعد أسبوعين قافلا بجيشه إلى بغداد، ولو نظر أحد في جرابه لارتعد فرَقَاً؛ كان يحمل داخله رأس صبي خُراساني لم يطِر شاربه. فكّر ابن هُبيرة في الخُراساني وابنه والرأس، وفي تلك الكلمة التي اعتاد أن يثير بها حماس الجنود. يريدني أن أعيد إليه ابنه! تبًا لهذه الخُراسانية التي لا تفهم كلام العرب! لكنّ الحقَّ يقال؛ هم أهل نجدة وبأس، ولولا شدّتهم ساعة الدائرة لخسرت المعركة. بصق ابن هُبيرة على الأرض، وشدّ لجام جواده بعد أن انحرف قليلاً، عاد يفكر: لكن أين روح ابنه الآن كي أعيدها؟ أفي الرأس؟ أم القبر؟ أم السماء؟ أم الأرض؟ وإذا صحَّ أنه أعارني روح ابنه في الزمان الدنيوي، هل يلزمني إرجاعها الآن وهي تسبح في زمانها البرزخيّ؟ ماذا يجري للعاريّة حينها؟ إنها مسألة فقهية جديرة بإعجاب قاضي القضاة.
   ابتسم ابن هبيرة وهو يمضي قُدما نحو بغداد، بينما أخذ الجراب يتراقص يمنةً ويسرة على وقع حوافر جواده.


( 2 )

دخل ابن هبيرة بغداد، واتجه مباشرة إلى قصر الخلافة. كان استقبالا مهيبًا، يليق بنصر كهذا. أطرى أمير المؤمنين قائده المنتصر، وخلع عليه، وأجلسه جانبه، وعندما همّ بالخروج، ناوله سيفا مُذهبّا يعود إلى الخليفة المعتصم. لم يكن ابن هبيرة عجلا للرجوع إلى بيته،  إذ كيف يكون البيت بيتًا دون حُرَمه وولده؟ عندما رجع، استقبله عبده طويس. أخبره أنه أوصل ابنه وزوجته إلى الاهواز قبل أسبوع، وها قد رجع ليستقبله. أخبره أيضا أنّ معلّم ولده في الكتّاب أبا الريحان ياقوت ينتظره داخل الدار. استغرب ابن هُبيرة هذه الزيارة غير المتوقعة، قد يكون أتى مستفهما عن غياب العباس!
   عندما دخل، هبّ المعلمُ واقفا وقبّل يد أمير الجيش.
   "أصلح الله الأمير، وملأ أيامه نصرا."
   "شكر الله لك يا أبا الريحان."
   "مولاي، رابني شيء فأحببت أن أرفع إليك بخبره. لاحظت رجلا يدور حول الكتّاب في الثلاثة الأيام الأخيرة، يسأل الصبية عن ابنكم العباس. فلمّا لم يأت العباس رأيت أن أخبر مولاي لعل الأمر يهمّه."
   انقبض قلب ابن هبيرة.
   "صفه يا أبا الريحان."
   "أسمر، عريض الكتفين، وطويل القامة جدا."
   إنّه هو!
   أخرج ابن هبيرة كيسا من الدراهم وناوله المعلم.
   "أحسنت وبررت يا أبا الريحان. الرجل مخبول كَلِب، ولو خُليّ بينه وبين العباس قتله. خذ معك طويسا والجنود، وانتظر الرجل، وإذا رأيته أشِر إليه والباقي على طويس."
   مضى أبو الريحان بالجنود والنقود، بينما انسحب ابن هبيرة إلى غرفته منزعجا مقبوض القلب. لم يطق إغماضا، لكن حين فكّر بالأمر حمد ربه؛ فالرجل بعد أن عجّل بهلاك نفسه أنهى المشكلة، والآن بعد أن يلقي به في السجن، بوسعه أن يرسل طويسا كي يحضر أهله وولده. ثم ماذا لو أنه أحضر العباس ثم سبق هذا المخبول إليه؟ نفض ابن هُبيرة الفكرة منزعجًا قبل أن يسقط في غياهب النوم.
   عندما أفاق، كان طويس والحرس ينتظرونه في باحة الدار ومعهم الخراساني. تناول ابن هبيرة الجراب واتجه نحوهم. كان الخراساني ملقى على ركبتيه، شعره أشعث، وملابسه ممزقة. تقدّم ابن هبيرة بخطى واسعة حتى وقف فوق الخراساني، ثم قلب الجراب، لتسقط الجمجمة متدحرجة على الأرض.
   "هل تريد عاريتك؟ ها هي، خذها."
   تراجع الدم من وجه الخراساني حتى تحوّلت الحُمرة شحوبًا باهتًا كالموت. ارتدّ ابن هبيرة إلى جوف داره، وتناول دواةً وصحيفة، وبعد أن أعمل فكره لحظاتٍ كتب فيها:
   " إلى قاضي القضاة أبي الوليد عبد الرحمن بن محمد المعافري حرسه الله : هذا رجل من عامة الجند، قُبض عليه وهو يهمّ بقتل ابني العباس، فأمرت أن يُلقى في الحبس ولا يرى النور أبدا، فإن رفع إليكم بشأنه فهذا خبره، والسلام. "


( 3 )

كان المجلس فسيحًا بَهِجًا، النور يتسلل عبر الشرفات ويختلط بالعتمة، والروائح تتصاعد مع البخور فتعطي الهواء رائحةً تبعث الخدر. وعلى الطنافس وفوق البُسط استلقى قاضي القضاة مرتخيًا، كما يليق بالمضيف أن يسترخي في هناءة داره، بينما تحلّق حوله أصحابه: أمير الجند، وكاتب الخراج، وكاتب الإنشاء، في مجلس لا يعيبه سوى أنهم في دعوة الأحلام كما يقول أبو تمام.
   مدّ قاضي القضاة ساقه، وقضم تفاحة، ثم قال:
   "كنت بالأمس عند أحد الشعراء، فألقى بيتين من الشعر، يصف وجها قبيحا مقروحا ذهب المرض بروائه. نسيت البيتين، لكن الوصف كان من الخلابة والبراعة والدقة، بحيث صرخت: ما أحسنه! وما كاد الاستحسان يخرج من فمي، حتى استغرقت بالتفكير، فهل هو استحسان للوجه القبيح؟ وفي هذا عجب أيّ عجب! أن تستحسن قبيحا! ولربما قلتم: إن الاستحسان يعود إلى دقة الوصف، أو إلى الحقيقة، فلقد وصف الشاعر الوجه كما هو، على حقيقته، والسهم إذا أصاب يُعجِب. لكني أرى خلاف ذلك، فلو أراد الشعراء الحقيقة لقالوا: كأن الوجه وجها، وكأن القمر قمرا، لكنهم يقولون كأن الوجه فلقة قمر، وكأن القمر وجه حسناء، وهذا نوع من الكذب، أبعد ما يكون عن الحقيقة، ولم يجلب الاستحسان إلا لأن السهم أخطأ الرميّة وأصاب صورتها. هناك قصة شهيرة تخصّ أمير المؤمنين أبا العباس عبد الله ابن المعتز يرحمه الله. أبو العباس كان شاعرا، وفيلسوفا أيضا، وذا رأي في الجمال حصيف. تقول القصة إنّ ابن المعتز كان يوما في ضيافة النميري، وعنده جارية لبعض بنات المغنين، كانت غايةً في القبح، إلا أن الأمير –يرحمه الله- جعل يغازلها، ويجمّشها، ويتعلّق بها، فلما قامت سأله النميري عن ذلك فقال:
                    قلبي وثّابٌ إلى ذا وذا          ليس يرى شيئا فيأباهُ
                    يهيمُ بالحُسنِ كما ينبغي        ويرحم القبحَ فيهواهُ
   غفر الله لأبي العباس، ما كان أنبله! إلا أني أرى في القصة شيئا آخرَ أعظم خطرًا: لقد كان ابن المعتز قادرا على رؤية الجمال في القبح، فالخط المستقيم إن زلق به القلم، والبرق إن مزّق سكون الظلمة، والحجر إن عكّر صفحة البحيرة، كل هذا يكسر رتابة المنظر، ويجعله أكثر حياةً وحرارةً. إذن، نعم، هناك شيء من الجمال في بعض القبح. ما رأي مولانا أمير الجند؟"
   ابتسم ابن هبيرة، وأصلح جلسته، ثم أجاب:
"كان يُفترض أن تكون شاعرا يا أبا الوليد! لكني أفهم ما تقصد إليه، ولو سألتني: ما أجمل منظر ممكن أن تشاهده على هذه الأرض، لأجبتك دون تردد: ساحة معركةٍ بعد انتهائها."
   هنا، انتفض الضيوف معترضين، وسرت الغمغمة.
   "لعلّ أمير الجند اختلط عليه مفهوم الجمال باللذة التي يستشعرها القائد بعد النصر!"
   "ليس إلى هذا قصدت. فساحة المعركة جميلة حتى لو كنت مهزوما. أذكر أول مرة وقعت فيها على هذا الكشف. يحتاج الأمر إلى مسافة حتى تأخذ المنظر بكامله. كنت حينها على بعد فرسخ أو اثنين، فوق تلّة تطل على المنظر. هبط الليل، وأضاء البدر، وانتثرت أشعته على الوادي. فما ظنك بوادٍ يختلط فيه النور بالظلمة، والدماء بالعرق، والدموع بالصديد! لقد شبّه الشعراء المعركة بالرحى، وحسنا فعلوا، فمن يدخل الساحة بعد المعركة يجد كل شيء معجونا، متداخلا، ولربما رأى رجلا بأقدام حصان، أو حصانا بجذع رجل، أو عنق بعير ملقاة بين جذوع النخيل، ولربما أصابته حمى، فخاطبه الحصان المقطوع العنق، شيء لا يعرفه إلا الضباع وسفلة البشر، الذين يتسللون بعد انتهاء المعركة للسلب والنهب، والمنظر في غاية البشاعة إذا كنت داخله. لكن اجعل بينك وبينه هذه الفراسخ الثلاث، وسيتحوّل شيئا آخر تماما، سيصلك الزفير والبكاء كأنه تنهيدة غانيةٍ تنام وحيدةً وسط الليل، وستحس بالحرارة تنبعث من جوف الأرض، ولو صبرت شهرا لربما أنبتت خزامى وعراعر! فكروا بالأمر: قبل المعركة هناك أمير جيش، وقادة كتائب، وفرسان، ومشاة، وحيوانات، ودواب، ثم تدور الرحى العظيمة فإذا كل ذلك يتداخل ويُطحن، وينتهي بهذا المنظر البارع."
   تنحنح قاضي القضاة:
   "وصفُ بارع بالفعل، لكن اسمح لي أن أقف قليلا عند هذه الرحى، وهذه الفراسخ الثلاث. خيّل لي وأنا أسمع أنّ شيئا آخر أعجبك يتعدى المنظر. حكيت عن الرحى، وكيف دارت، فسوّت بين القائد والجندي، وكأنّك تتغنى بالعدالة الإلهية، وهذا شيء يهمني كقاضٍ، وسبق أن فكرت فيه. أنا مثلك، كنت في ريعان شبابي أرى في السيف حين يسقط على عنق القاتل منظرا يفوق في جماله كل شيء. فأي شيء أروع من أن ترى العدالة تضرب بصيقلها؟ ثم اكتشفت لاحقا، أنك كلما اقتربت من المشهد، زال الجمال، وبهتت العدالة. فماذا عن الطفل الرضيع الذي سيصحو غدا بعد أن اقتصصت من والده؟ وماذا عن ابنته التي ستبيع نفسها كي تشبع خَلّة أسرتها؟ هل يحق لنا أن ننظر إلى مناطق مثل هذه؟ أن نقطع الفراسخ الثلاثة؟ أن ننظر من خصاصة الباب؟ أحيانا يخيّل لي أنك لن تفهم مثل هذه الأمور إلا إذا نظرت إليها من مسافة عالية كالنجوم. وهذا هو أسّ مشكلتنا: أننا ننظر من خصاصة الباب، ونفكر كالنجوم!"
   ابتسم ابن هبيرة، وهزّ رأسه:
   "ليس إلى هذا قصدت، فمنظر ساحة المعركة جميل بذاته، دون أن يكون هناك شيء وراء ذلك. لكني أحببت حديثك عن خصاصة الباب والنجوم."
   انفضّ المجلس، وانصرف كل رجل إلى داره، وأُطفأت القناديل، وهدأت الأصوات، لكن قاضي القضاة بقي ساهرا يفكّر. أخذ يدور كالملدوغ حول نفسه، وتطلع من شرفة داره نحو الليل، وعندما لم يستطع غمضا فتح دُرجا يخفي فيه رسائله وقرأ القصاصة التي بعث بها ابن هبيرة قبل شهرين. قرأها ثلاث مرات، ثم أمر عبده أن يذهب إلى رئيس الحرس ويأتيه بالسجين الخراساني مقيّدا.
   عندما مثل الخراساني بين يديه أخذ يتأمله. كان فارع الطول، أكحل العينين، نظراته لا تستقر على مكان. سأله قاضي القضاة:
   "ما جريرتك أيها الرجل؟"
   "ليس لي جريرة استحق من أجلها الحبس."
   "كتب أمير الجند يقول إنك هممت بقتل ابنه!"
   "إنما هي كلمة فهمها أمير الجيش بشكل خاطئ. أين هو الفتى الآن؟"
   "في داره."
   "فلماذا أبقى في الحبس؟ "
   "أحيانا يكون الحبس ضروريا لمن يُخشى شرّه على المسلمين."
   "هل سمع مولاي بحكاية كسرى والقهرمانة والعبد."
   تطلّع قاضي القضاة في وجه الخراساني، وكأنه استغرب السؤال.
   "قرأت في التاريخ والملاحم البهلوية كثيرا، لكني لم أسمع بشيء كهذا."
   "يُقال يا مولاي إن أنوشروان كان شابًا غضّ الإهاب حين خرج مزدك اللعين وغلب على عقل والده قبّاذ، وكان مما دعا به اللعينُ إباحة الأموال والأزواج وجعلها ملكا مشاعا. فحدث أن شرب مزدك عند قبّاذ ذات مرة، فلمّا دارت الخمر برأسه قال مزدك: أليس مالك مالي، ونساؤك نسائي؟ أجاب قبّاذ: بلى. قال: فلماذا لا تبعث إلى امرأتك وقهرمانتها، فتلبسها القهرمانة أحسن ثيابها، وتضع التاج فوق رأسها، ثم تأتيني، فأدخل بها كأحسن ما يكون؟ أجابه: لك ذلك، ثمّ تناول صحيفة وقلمًا، وكتب إلى زوجته بما قال مزدك، ودفع بالصحيفة إلى عبد كي يوصلها. فلما فرغت الملكة من زينتها، وقفت عند الباب، ورآها أنوشروان على تلك الحال، فكاد أن يُجنّ. دخل الغرفة، وقبّل قدم والده، وقدم مزدك، تخيّل! وما زال يلح عليهما حتى تنازل الأخير وأبقى على الملكة من أجل ابنها. لكن أنوشروان لم ينس موقفه الذليل وأسرّها في نفسه. ثم حين اعتلى العرش، أحضر مزدك، والقهرمانة، والعبد الذي سفر بين أبيه وبين والدته، ثم أمر بتقطيعهم وحرقهم أحياءً. قُتل مزدك، وقُتلت القهرمانة، ثم لما جاء دور العبد جثا بين يدي كسرى أنوشروان وقال: إنما أنا رسول لا علم له بالرسالة التي يحمل. لكن أنوشروان أبى إلا أن يُقتل. فلما استيأس الرسول، دعا بدواة وصحيفة وكتب كتابا، ثم طلب أن يُسلّم إلى كسرى أنوشروان بعد قتله. وهكذا كان. فلما فتح أنوشروان الصحيفة قرأ فيها: تقول القهرمانة إن والدتكم بعد أن صرفتها عن الباب، وقع في قلبها أن مزدك يشتهيها، فنما حبه في قلبها، وأدخلته مخدعها ست مرات."
   سكت الرجل الخراساني. وسكت القاضي.
   "حكاية غريبة! لكن كيف عرف كسرى أنوشروان أن الرسول صادق في صحيفته، فلربما تكلّف القصة كي ينتقم!"
   "وهل يهم حين ينغرز النصل إن كان معدنا أو خشبا؟"
   "لكن ما علاقة القصة بقضيّتك؟"
   "أنا كحامل الرسالة، لا يدري ما فيها، فإن قلت شيئا ثم وقع في خاطر أمير الجند شيء آخر، فالذنب ذنبه لا ذنبي."
   أمر قاضي القضاة بإرجاع الخراساني إلى محبسه. أخذ يفكر في القصة، وبالأخص الجزء الأخير، كيف انتقم الرسول من كسرى أنوشروان. لا بدّ أن كسرى سهر ألف ليلة وهو يفكر في محتوى تلك الرسالة! لو أنه أبقى على العبد لما أفسد عليه حياته ونومه. لكن وجه الشبه بين حامل الرسالة والخراسانيّ استعصى عليه ولم يقنعه، وقبل أن ينام، هتف قاضي القضاة في ضيق: تبا لهذه الخراسانية التي لا تعرف كيف تضرب الأمثال!
   في الصباح، أمر القاضي بإحضار بضعة رجال ممن شهدوا الحادثة. استجوبهم، وعندما لم يجد دليلا دامغا يدين الخراساني أمر بإطلاقه.


( 4 )

العصافير تزقزق، والزغاريد تلعلع، واليوم عيد، والأطفال يركضون جيئة وذهابا. لبس ابن هبيرة السواد، ووضع عمامته، وتمنطق بالسيف، وعندما خرج من داره رأى ابنه العباس بصحبة العبد طُويس. قبّل الابن يد والده، وهنأه بالعيد، وعندما سأله أبوه أين يعتزم الذهاب، قال إنّه قاصد السوق كي يبتاع حلوى بقطر العسل. أوصى ابن هبيرة طويسا أن يلزم العباس ولا يفارقه لحظة، ثم اعتلى فرسه وخرج قاصدا قصر الخلافة كي يؤدي واجب السلام على أمير المؤمنين.
   لم يستعجل طريقه، فلقد كان في منظر الأطفال والنساء والجواري ما يبهج القلب. ها هم يخرجون في زينة العيد، يشترون الأقمشة والحُلي والحلوى المقطّرة بالعسل، هانئين غافلين، لا يدرون عن الأخطار التي تحيط بعاصمة الخلافة من كل جانب، والفضل له ولرجاله، ولسيفه الذي ما قابل الأعداء في ثغر من الثغور إلا هزمهم. بالأمس فقط حدّثه الخليفة عن الأوضاع في البذّ شمالًا، وكيف بدأت الزندقة والمزدكية تنتشر من جديد. أصغى ابن هبيرة بانتباه، وعندما أنهى الخليفة حديثه، قال بكفاءته المعهودة: الجند جاهزون يا مولاي، أعطنا الأمر وسنحصرهم ونقتلهم ولا نذر منهم أحدا.
   عندما رجع آخر النهار، وجد داره مقلوبة. كانت الأم تبكي، والجواري يبكين لبكائها، والعبيد يركضون أمام الدار بلا فكرة أو وجهة. صرخ ابن هبيرة بصوته الجهوري مستفهما عما يحدث، أُخبر أن ابنه العباس مفقود منذ الصباح، وأنّ طويسا رجع دون سيّده، وأنهم بحثوا عنه في السوق دون فائدة. هرع ابن هبيرة نحو طويس فلقاه شاحبا يرتجف في إحدى الزوايا، وقد عقد الخوف لسانه. لطمه ابن هبيرة وصرخ:
   "أين أضعت مولاك يا لُكع؟"
   "أقسم يا مولاي أنّ سيدي العباس لم يغب عن ناظري لحظة. كان الدكان مزدحمًا، وأردت أن أفسح لبعض النسوة، ولم أتبادل مع غصن وقاسم سوى كلمة أو كلمتين. لكن حين نظرت إلى حيث جلس مولاي العباس إذا به غادر مكانه. قلبت السوق رأسا على عقب أبحث عنه. قلت ربما رجع إلى الدار حين لم يجدني، فعدت أيضا. يا لي من عبد سوء! يا لي من شقيّ!"
   انكفأ العبد يبكي على نفسه بصوت عالٍ، تركه ابن هبيرة وأخذ يوزع المهام على باقي العبيد. أرسل واحدا إلى رئيس الدرك، وواحدا إلى رئيس السوق، وأرسل الباقين كي يمشّطوا حواري وأزقة بغداد جمعيها، فلا يتركوا موضعا إلا بحثوا فيه. بعدها ذهب إلى زوجته كي يهدئ من روعها ويسلّيها إلى أن يرجع العباس.
   أظلم الليل، وأنيرت المشاعل، ولزم العبيد ساحة الدار. كانت ليلةً طويلة، أطول من ليلة الهرير. عندما لاحت تباشير الفجر، أقبل حمّال من آخر الزقاق يتهادى، يحمل فوق حماره صندوقا خشبيا مربعا. أحاط به العبيد من كل جهة وكادوا يركبونه. سألوه أين يقصد؟ أجاب إنه يبحث عن دار القائد ابن هبيرة، وإن الصندوق أمانة دفع بها أحدهم مقابل مبلغ من المال. ملأ اللغط الدار، وأسرع ابن هبيرة إلى الباب، وعندما رأى الصندوق أحس كأن قبضة تهوي على صدره. سأل الرجل إن كان أُعطي رسالة أو عبارة يوصلها مع الصندوق، فأجاب بالنفي. استجمع ابن هبيرة شجاعته، وأدار الغطاء، وعندما فتح الصندوق إذا برأس ولده في القعر.
   بكت أم العباس كما لم يسبق لها البكاء، أما أمير الجند، فلقد أمر بطويس فرُبط عاريا، ثم انهال عليه بالسوط مئة جلدة، وهو بالكاد يرى موضع ضرباته.


( 5 )

بعد أن دفع الخراساني بالصندوق إلى الحمّال غادر بغداد. لم ينتظر لحظة، بل ركب فرسه، وخرج من باب خراسان، واتجه مصعدا شرقا وشمالا. كان يتمنى أن يشفي غليله برؤية ابن هبيرة وهو يفتح الصندوق، لكنه كان يعلم خطر ذلك، ويعلم أنّ الحمال ممكن أن يقودهم إليه، لذا فالأحوط أن يخرج من بغداد بأسرع ما يمكنه، وأن يتجه إلى البذّ. أخذ يتخيّل وجه ابن هبيرة مبتسما وهو يقطع الفيافي والآكام، فكّر كم هو محظوظ حين لم يره على الحقيقة، لأنه لو فعل، لكان وضع للأمر نهاية. أما الآن، فسيتخيل الأمر باستمرار، ويتلذذ فيه، وكأنّ ابن هبيرة محكوم بفتح الصندوق الذي يحوي جمجمة ولده كل يوم. وهكذا، قد يكون في هذه الفكرة جواب على المسألة التي أراد ابن هبيرة عرضها على قاضي القضاة: لقد أعاد الخراساني العاريّة في زمانٍ برزخي!
   كان الخراسانيّ يعرف البذّ جيدا، يعرف تلك السروة التي ينوي أن يدفن جمجمة ابنه أسفلها. عندما فرغ من الدفن، قصد سوق السلاح، فاشترى لنفسه رُمحا، وصقل سيفه، ثمّ انضم إلى الجماعة الخارجة على الخلافة. غريب أمر الانسان! عندما حكى الخراساني قصة كسرى والقهرمانة والعبد قبل شهرين وأتى ذكر مزدك صبّ عليه جام لعناته، وها هو الآن ينضم إلى جماعة تدين بالمزدكية، لا لشيء إلا لأن المعسكر الأول لم يعد آمنا، وكأن الديانة لبس يلبسه المرء بعد أن يركن إلى موضع آمن.
   تدفقت الجماعات الثائرة من كل القرى المحيطة، وبدأ هذا الجيش الغريب يكبر ويضم خليطا عجيبا من الناس. فهناك الناقمون على الخلافة، وهناك المضطهدون، وجموع من المزدكية، والزنادقة، والمرتزقة، وأولئك الذين يحلمون بإعادة ملك كسرى. شهد الخراساني عدة معارك مع الثوار، وجمع من الأسلاب والأموال قدرا لا بأس به، إلا أن وقت الدعة لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما وصلت الأخبار بقدوم جيش الخلافة، وعلى رأسه القائد المظفّر ابن هبيرة. سرى الرعب في جيش الخوارج، وأراد بعضهم أن يفر، ودعا بعض إلى التحصن في البذ، لكنهم عقدوا العزم أخيرا على الهبوط جنوبا كي يلتقوا جيش الخليفة بعيدا عن معقلهم، حفظا لذراريهم، ولما جمعوا من أموال.
   وهكذا التقى الجيشان في أرض وعرة تحيطها الجبال قرب رستاق خُش. لاحظ الخوارج أن جيش ابن هبيرة ليس بالضخامة التي كانوا يتوقعونها. التفت رجل بجوار الخراساني وهتف: أين ذهب فرسانهم؟ لا أرى إلا الرماة والرجّالة! يبدو أن خزائن الخليفة فارغة كما يُشاع!
   شدّ الخوارج شّدةً كاد أن ينكسر لها جيش الخلافة، وقتلَ الخراساني خمسةً ما بين وجأة رمح، وضربة سيف. عندما تهاوت الشمس انكسر جيش ابن هبيرة أخيرا، وبدأوا يتراجعون حتى انتهوا إلى أرض فسيحة تحوّطها الجبال. سقط الخراساني من على جواده أثناء مطاردته أحد الهاربين، وحين اعتلاه الهارب، استدار الخراساني وفاجأه بطعنة خنجر أجهزت عليه. لكنه فجأة، وهو يلتقط أنفاسه، أحسّ بالأرض تهتز تحته، وسمع أصواتا كأنها طبول بعيدة، ثم تعالى الصراخ، وبدأ الخوارج يتساقطون أمام الطوفان الذي اجتاحهم من الجهة الغربية. لم يكن طوفانا، إنما فرقة ضخمة من الفرسان والخيّالة، أخفاها ابن هبيرة وراء الجبل، وادّخرها من أجل ضربته الأخيرة.
   هبط الليل، وبدأت الضباع والمرتزقة والسِفلة تتلمس طريقها بين الجثث. ملأ طويس كيسه بالأسلاب والنقود، واضطر إلى قطع أصبع جثة كي يحرر خاتمها. كان من عادته أن يغتنم هذه السويعات القليلة التي ينشغل فيها القائد كي يحرز شيئا من المال والسلب، وبينما هو يخوض بين الجثث، توقف عند إحداها وأخذ ينظر مليًا. أمسك بها من رجليها وسحبها إلى بقعة أكثر نورا. نعم، إنه هو. مستحيل أن يُخطئه. الخراساني الذي قتل مولاه العباس. بلع طويس ريقه، وأقفل كيسه، ثم انطلق يجري متحاشيا الجثث، قاصدا التلة، حيث نُصبت خيمة القائد.
   عندما وصل، وجد مولاه واقفا على السفح، يتأمل المنظر كما جرت عادته. استنشق ابن هبيرة الهواء، وتنهّد، ثم قال، وكأنما أحس بمقدم خادمه:
   "أتعلم يا طويس؟ أحيانا يخيّل لي أن ميدان المعركة بقعة تعزب عنها عين الله. قد تعدّها هرطقةً، معك حق، فلا شيء يخفى عن الله في الأرض ولا في السماء، حتى هذه العجاجة التي أثارتها خيول الجيش النازل تحت أمر خليفته، هي لا تحجب شيئا عن ناظره. أظن قاضي القضاة كان سينتفض لو سمع هكذا عبارة. كنت معه قبل ستة أشهر، قبل أن نفقد العباس. قال إن في الرحى التي تدور  وتسويّ بين الوضيع والرفيع شيئا من العدالة، بل زعم أني أستحسن المنظر لأجل هذه العدالة! غفر الله له، وهل هي إلا بقعة موبؤة، لاحظتها عين العناية ثم أشاحت عنها بوجهها؟ الطريف، أني بدأت أتنبا بنتائج المعارك ويصدق ظني كل مرة، كما يفعل الجنائني حين يفتح جدولين من الماء، ويحسب كيف سيغير كلا منهما اتجاهه. لكن من يستطيع التنبؤ بمصير كل قطرة في الجدول؟ هذا الذي يعزب عن فهمنا ويدخل في علم الله. ربما لهذا السبب لم أستطع التنبؤ بمقتل العباس! نعم، لمحت الجنون في وجه الخراساني ورميت به في السجن، فهل أعذرت؟ كيف لي أن أتنبأ بأن قاضي القضاة سيخلّي سبيله؟ أو أتنبأ أن عبدا يترك سيّده وينشغل بالثرثرة مع أصحابه المخنثين؟ وها أنا ذا! الأمير الذي كسب كل المعارك وحمى حوزة الإسلام، لم أستطع أن أحول دون قتل ابني، بينما يمضي ذاك الخراساني الآبق دون قصاص أو انتقام! إنّما هي دنيا موبؤة، لاحظتها عين العناية، ثم أشاحت عنها بوجهها."
   أطرق طويس برأسه وركل حصاة تحت قدمه. أخذت ابتسامة مريرة تعلو وجهه لولا أن حجبها الظلام. فكّر لحظات، ثم استدار عائدا إلى الخيمة. كان ينوي أن يخبر مولاه عن الخراساني، لكنه بعد أن فكّر مليّا قرر خلاف ذلك. لم يفكر بالمئة جلدة، ولا بالطريقة التي تحدث بها مولاه عن أصحابه، ولو سألته لتنكّر للقرار قائلا: العبد لا يقرر، إنما يسمع ويطيع. شعر فقط أنّ هذا هو الأجدر فعله. وكأنّ شيئا همس داخله بذلك، فسمع وأطاع، شيئا ما، ربما النجوم!



عدي الحربش
Sep 7 - 2017



الخميس، 27 أبريل 2017

موقف الحساب The House of Judgment



وعندها أطبق الصمت في موقف الحساب، وتقدم الإنسان عاريًا أمام ربه.
   وفتح الإلهُ صحيفة الإنسان.
   وخاطب الإلهُ الإنسانَ: "كانت حياتك شريرةً؛ أظهرت القسوة لمن يحتاجُ العون، كنت فضا غليظ القلب معهم. ناداك الفقراء فلم تسمع، وسددتَ أذنكَ تجاه صرخاتهم. أكلت تَرِكة اليتيم، وأطلقت الثعالب في كَرمة جارك. استوليت على خبز الأطفال، وألقمته الكلاب، وطردت المجذومين من أهوارهم، ورميت بهم إلى قارعة الطريق، وسفكتَ الدم فوق الأرض التي جبلتُكَ من صلصالها."
   أجاب الإنسان: "كل ذلك فعلته."
   وفتح الإله الصحيفةَ مرةً ثانية.
   وخاطب الإلهُ الإنسان: "كانت حياتك شريرةً، كشفتُ الجمالَ لك فبحثتَ عنه، وأخفيتُ الصالحَ عنك فمررتَ غير عابئٍ به.  ملأتَ جدران مخدعك بالتصاوير، وعلى أنغام الناي استيقظتَ فوق سرير فحشائك. شيّدتَ هياكل الآثام السبعة، وأكلتَ الثمرة المحرمة، وزيّنت مِطرفك بشاراتِ الخزي الثلاث، لم تكن أوثانك من الذهب أو الفضة الدائمين، وإنما لحمًا يتفسّخ، ضمّختَ شعرها بالعطر، ووضعتَ رماناً في راحة يدها. دهنتَ أقدامها بالزعفران، ومددت البُسُطَ أمامها، لوّنت بالكُحل أجفانها، وغسلتَ بالمسكِ أجسادها. وقبّلتَ الأرض بين يديها، ونصبتَ لها عرشا فوق الشمس. كشفتَ خزيك أمام الشمس، وجنونك أمام القمر."
   أجاب الإنسان: "كل ذلك فعلته."
      وفتح الإلهُ الصحيفةَ مرةً ثالثة
   وخاطب الإلهُ الإنسان: "كانت حياتُك شريرةً، قابلتَ الخير بالشر، والطيبة بالعدوان، جرحت اليد التي أطعمتك، واحتقرت الثدي الذي أرضعك، تركت من سقاك عطشانَ، وحين أخفاك قطاع الطريق ليلاً وشيتَ بهم فجرًا. كمنتَ لعدوك الذي أبقى عليك، وبعتَ رفيقك بحفنة دراهم، وكل من أحبك كان جزاؤه الشهوة."
   أجاب الإنسان: "كل ذلك فعلته."
   وأغلق الإله صحيفة عمل الإنسان، وقال: "سوف أرسلك حتما إلى الجحيم .. إلى الجحيم سوف أرسلك."
   صرخ الإنسان: "لا يمكنُ ذلك!"
   خاطب الإلهُ الإنسانَ: "كيف لا يمكن إرسالك إلى الجحيم؟ لماذا؟ ولأيّ سبب؟"
   أجاب الإنسان: "لأني -وطوال حياتي- كنت أعيش في الجحيم."
   وعندها أطبق الصمت في موقف الحساب.
   وبعد برهة تكلّم الإله، وخاطب الإنسان: "إذا كنتُ لن أرسلك إلى الجحيم، حتمًا سوف أرسلك إلى الجنة .. إلى الجنة سوف أرسلك."
   صرخ الإنسان: "لا يمكنُ ذلك!"
   خاطب الإلهُ الإنسانَ: "كيف لا يمكن إرسالك إلى الجنة؟ لماذا؟ ولأيّ سبب؟"
   أجاب الإنسان: "لأني -وطوال حياتي- وأيّما طوّحت بوجهي، كنتُ عاجزًا عن تصورها."
   وعندها أطبق الصمت في موقف الحساب.

تأليف : أوسكار وايلد
ترجمة : عدي الحربش



الخميس، 21 يوليو 2016

حلم السندباد لجيولا كرودي




حَلُم السندباد ذات مرة أنه غدا ملكا لإنجلترا القديمة أثناء ذروة مجدها: ملكا يافعا، يبلغ من العمر الثامنة عشرة، أحذيته ناعمة ومدببة، سترته حريرية وقصيرة، شعره طويل ومموج، عيناه لامعتان، ضحكاته لا تنقطع، أما قطع النقود الذهبية، فتتناثر بين أصابعه وهو يتحدثُ بصوته السعيد الرنّان. في هذا الحلم، لم يكن صغير السن فقط، وإنما خفيف قلب، سعيدا وعظيما، روحا جُبلت أثناء مطلع الشمس. كان رجال حاشيته يتسكعون فوق الشرفة المطلة على الساحة بأزيائهم المنتمية إلى حقبة هنري السابع، أما السيدات، فلقد كنّ يجررن أذيالهن الحريرية الطويلة، ويرفعن فساتينهنّ كي تبدو أحذيتهنّ العالية بشرائطها البيضاء. كانت الواحدة منهنّ عندما تمر إزاءه تومئ برأسها الصغير وشعرها المعقوص. لقد استمر يشاهد جواربهنّ البيضاء مدة طويلة حتى بعد أن انقطع حلم "الملك" واستيقظ وبدأ يحرك أعضاءه التعبة واحدا تلو آخر. طابور كامل من السيقان المغشاة بالجوارب البيضاء بقي معه. في ذاك الصباح، وبينما كان يتأمل قسمات وجهه الهامدةَ على المرآة، فكّر قليلا بذاك الشعور الذي انتابه حين كان ملكا يافعا في الليل. أخيرا، خطرت له هذه الخاطرة: بما أنه قام بتجريب كل ما يمكن تجربته في هذه الدنيا، لا بدّ أن منيته أصبحت قريبة.
   كان ذلك في بداية الخريف. لبس سندباد هندامه بعناية كما يجدر برجل تجاوز الثلاثمئة عاما أن يفعل. اختار ربطة عنق فاقعة اللون، وحذائين مصقولين بعناية. استلم الحلاق رأس السندباد تحت عضده على الطريقة الشرقية، ثم ضمّخ بالزيت المعطّر شعره الأشيب. وهكذا، وبعد أن أخذ كل الاستعدادات اللازمة، انطلق السندباد كي يعثر على المرأة التي لبست الجوارب البيضاء ذات مرةٍ وأومأت إليه برأسها حين التقيا قائلة: يا حبيبي ويا أميري! يومَها، كان السندباد يتكلف إيماءةً زاجرة، وكما أنه يقول: باللهِ عليك، كفي عن هذا الهراء! كان ذلك –بالطبع- في الأيام الخوالي، يوم كان من الشائع لكل امرأة تقطن في "بودا" و"كريستينا فاروس" -أو بالأحرى كل حارة وضاحية وزقاق في العاصمة– أن تقول له: يا حبيبي! حياته كانت سلسلة من "يا حبيبي" تضمرها له امرأتان أو ثلاث في نفس الوقت. كان لا يترك امرأةً في سلام حتى يوقعها في حبائله. لهذا السبب أنفق صاحبنا جُلَّ حياته منتظرا تحت الشرفات، متطلعا بولهٍ، أو بانكسار، أو بحزن، أو بسخط وتهديد. كانت لديه موهبة خاصة في مراقبة النساء، في أن يتبعهنّ خفيةً ويكتشف ما يخفينه من آمال وأسرار ورغبات. لقد أمضى أوقاتا طويلة واقفا مكانه، مصغيا لأزيز آلات الخياطة في منازل متواضعة وسط الضاحية، أو قافزا داخل عربة كي يلحق بأخرى مرت هادرةً أمامه وهي تحمل في جوفها امرأةً عطرية النَشْر تعتمر فوق رأسها قبعة عريضة،  أو متلصصا على نافذة ذات ستائرَ مخرّمة أضاءت لدخول الليل، أو مراقبا امرأة تجثو على ركبتيها في الكنيسة وهو يحاول أن يحزر ما الذي تصلي من أجله؟ كان ينفق من أجل ذلك ساعاتٍ طوالا إلى درجة أنه أحيانا بالكادِ يجدُ وقتاً يقطف فيه الثمرةَ التي يشتهيها. أحيانا، في غمرة انهماكه وتعبه، تجذبه مغامرة جديدة، يستثارُ لها دمُه وأحلامه وشهيته، فينسى أن يكمل مغامرته السابقة. وهكذا، في مسيرته البطولية، كان هناك ما يقارب الإحدى عشرة أو اثنتي عشرة امرأة، أُضطرت إلى أن تنتظره بلا جدوى، في موعد غرامي، أو عربة مغلقة، أو ممشى يخترق الغابة، أو محطة قطاراتٍ بعيدة، حيث يُفترض لقطارين أن يلتقيا، ولم يكن السندباد في القطار، أما المرأة، تلك الاستثنائية، فلقد كانت تقف متلهفة قرب النافذة، متطلعة خلف الستائر، مذعورة، ترطّب شفتيها اليابستين بلسانها. وتمر قطارات عديدة.. أحدها ذاك الذي يحمل المرأة ذات الجوارب البيضاء، تلك التي تخاطبه في رسائلها أو على الملأ بكلمة "يا حبيبي"، ولم يكن في ذاك أي شيء يخرج عن المألوف.
   تلك المرأة كانت أرملةً وتُعرفُ بـ"القردة" بين الذين أحبوها. كانت امرأةً جادة، صارمة، راسخةَ العقل، إذ أنّ النساء عادةً يغيرنَ ألقابهنّ بتغير معجبيهنّ. أما هي، فلقد بقيت "قردةً" حتى النهاية. كانت بالكادِ تضحك، ولم تغمز في حياتها قط، وعندما يغيظها السندباد، كانت تمسك بموسى الحلاقة وتهدده بقطع حنجرتها، متطلعةً نحوه بنظراتها الحادة اليائسة. لقد أحبت السندباد بعاطفةٍ عمياء مطلقة، وكما لو أنه قدرها. لم تستطع أن تتوقف عن حبه حتى بعد سنواتٍ من هجره إياها. كانت كما لو أنها صمّاء وعمياء إلى أن بلغت العاشرة وأصبحت تؤمن أن هذا الرجل هو من جعلها تفكر بطريقة تختلف عن باقي النساء. أخبرت السندباد ذات مرة في واحد من لقائتهما النادرة: سوف أحب أميري طالما حييت، سواءً رأيته أم لم أره. هزّ سندباد كتفيه باستهجان: لماذا يتوجب أن تحبي بهذه الحماقة؟ هناك أشياء أخرى في الحياة عدا الحب.
   رغم ذلك، عندما فاجأت بشائر الموت سندباد ذلك اليوم، عندما أراد أن يودّع أولئك النساء اللائي ما زال يكنّ في قلبه لهنّ احتراما، أول من قفز إلى عقله هي "قردة". النساء الأخريات: الشقراوات، والسوداوات، والصغيرات، والمجربات، والعبلاوات، والنحيلات، اللاتي زرعن عشقهنّ القاتلَ في سويداء قلبه، واللاتي جرى خلفهنّ إلى أن تقطعت أنفاسُه، حزينا، حائرا، ومستعدا أن يزهقَ حياته مئة مرة من أجلِهنّ – كل أولئك تمّ إهمالهنّ ذلك اليوم.  لم يزدريهنّ، لكن التفكير بهنّ لم يعد يثيرُ دمَه. ذكرى شفاهِهنّ التي ما زالت عالقةً على شفتيه، أياديهنّ، أقدامهنّ، عيونهنّ، أصواتهنّ التي دفعته –منذ مدة ليست بالطويلة– إلى أن يكررَ أنماط صباه في كهولته اللاحقة، لا لشيء إلا ليحظى بتقبيل تلك الشفاه والتشبثِ بتلك الأيادي تارة أخرى، أن يفتش الدنيا كلها، ويضعَ حولَ خصرها زُنّاراً إن لزم، سبعا وسبعين مرة أو يزيد، بحثا عن محظياته السابقات وأحضانهنّ الآنفة – كل ذلك تلاشى.
   تلاشى: ورغم ذلك انطلق القطار يحمله أربعاً وعشرين ساعةً، يوما إثرَ يوم، راجعا به إلى تلك الأزقة الجانبية القديمة، حيث رأى –ذات صباح ربيعي- امرأة شابةً خلف نافذتها، تتكئ بفستان نومها الأبيض على إطار الشرفة، شعرها هائج قليلا، عيناها ناعستان، خدّها ما زال أحمرَ من أثر المخدة، حينها انهمك السندباد معها في حديث وديّ، قبل أن ينسلَّ بتهورٍ إلى الداخل وينضمَّ إليها، تلك المرأة الغريبة في القرية المجهولة. كانت نهاية المغامرة سعيدة، وبعد عشرين عاما، في زيارته التالية إلى القرية، رأى شابا يافعا أسودَ الشعر وراء النافذةِ يتعلم دروسَه. فكّر السندباد: قد يكونُ النسخةَ الشابةَ مني!
   لكن الآن، في هذا اليوم الخريفي المبكر، كلهنّ تلاشين من عقله، ولم يبقَ إلا "قردة" الجادة الصارمة الراسخةَ العقل، تلك التي لم تبغِ منه أي شيء عدا أن تحبه بإخلاص، ومن بعيد.
عاشت "قردة" تلك الأزمن الخوالي في منزل منعزل على طرف "بودا" بقرب مركز التذاكر، حيث يمر الترام مسرعا وكأنه القطار السريع، مجلجلا، مدمدما، عبر الليل، بحيث يمكن لرجل مصاب بالأرق أن يشغل وقته منصتا إلى أزيزه.
   وضع عامل النظافة الخفين اللذين كان يرقعهما، لعق أصابعه بحرارة، تصفح دليل القاطنين، عثر على نظارته، ثم خَلُص إلى أن "قردة" لا بدّ أن تكون انتقلت إلى ضاحية أخرى.
   "كيف استطاعت تركَ شجرات السُمّاق وراءها؟" تساءل السندباد.
   "لا أدري." أجاب العامل وهو يغلق الدليل بعنف.
   هتفت شجرات السُمّاق حين تخللتها رياح الخريف: "رباه! إنه السيد سندباد!" فلقد مرت ليالٍ كانت تتنهد فيها لأجله.
   التقط عامل النظافة الخفين، رفع نظارته فوق جبهته، وهتف: "رباه! إنه السيد سندباد!" فلقد مرت ليالٍ كان يحضر فيها النبيذ والجعّة من الحانات لأجل السندباد، حين كانت "قردة" تعيش هنا.
   "ماذا حدث ؟" تساءل السندباد.
   "جرت الأمور على هذا النحو: أتتني ذات مرة وناولتني قطتها، أخبرتني أنها أصيبت بالملل منها. ثم أتبعتها بالجرار والحافظات، رمت بهنّ فوق أكوام القمامة. رمت أيضا قبعتها المخملية، لقد أصابتها بالملل! كانت مصابة بالملل من كل شيء هنا، وهكذا رحلت."
   ألصق العامل سعرا فوق الخفين بعد أن أصلحهما. شخشخ الخفان بين أصابعه: "لم أفتح الأبواب في هذه الساعة من الليل منذ توقف السيد سندباد عن زيارتنا."
    تهادى السندباد، منشغلا بأفكاره، مبتعدا عن المنزل ذي الطابق الواحد، حيث يتوسط بئرٌ ساحة الدار، محاطا بشجرات السُمّاق العطرة. أخذ يدفع بعصاه بعض الأغصان الخريفية المتساقطة.
   "لكن هل تغيرت قردة أيضا؟"
   وانطلق متتبعا آثار أقدام "قردة" وحذائها الأسود ذي الكعب الوطيء.
***
   "قردةُ" التي طوّف السندباد لأجلها "بودا" و"بيست" طولا وعرضا،  كانت تجلس تحت الشرفة بثوب نومها الوردي، وقد اتكأت على الحافة، واستغرقت في قراءة إحدى روايات "باول دي كوك"، تماما كما كانت تفعل قبل عشرين سنة. عندما وقعت عيناها على السندباد وهو يتسكع مبتعدا في آخر "جادة القطة"، صنعت من كفيها بوقا، ثم جأرت بأعلى صوتها من الدور الرابع وكما لو أنها صبي أجرة: "هنا، يا ولد!"
   تعرف السندباد مباشرة على صوت "قردة"، إذ أنه في كل هنغاريا لا يوجد غير امرأة واحدة لها صوت مثل هذا: نصفه بوق نفير، والنصف الآخر خشخيشة طفل. رفع السندباد رأسه، وتلبث ملياً إلى أن أعطته "قردة" إشارةً رشيقة تنبئ أن الوضع آمن. انطلق يصعد قفزا، ثلاث عتباتٍ في كل خطوة، إلى أن وصل الدور الرابع منهكا بالكادِ يلقط أنفاسه.
   كانت "قردة" تقف على مدخل الردهة، وفي فمها حاملة السيجار الفضية كما جرت عادتها. "يجدر بك أن ترفق على هذه الأعواد البالية." قالت مشيرةً إلى ساقيّ السندباد. "بحق الشيطان! ماذا كنت تصنع في جادة القطة؟"
   "أبحث عنكِ يا صاحبة النيافة!" أجاب السندباد، راميا نفسه فوق أحد كراسي الردهة.
   وكالعادة، لم تصدق "قردة" كلام السندباد. "أراهنُ أن إحدى ساقطاتك تعيش أسفل الجادة. أتعلم؟ سوف أكتشف الأمر، وعندها سوف أفجأها بوكزة بين ضلوعها. لا أحب أن أُخدعَ جهارا أمام عينيّ يا سندباد."
   رفع السندباد يده كما لو أنه يعطي قسماً. "أنتِ من أبحث عنه يا قردة. مرّ دهر طويل مذ رأيتكِ آخر مرة. حلمت بكِ ليلة أمس، أو قبل أمس، ومنذ ذاك وأنا أبحث عنكِ. لم تنسيني، أليس كذلك؟"
   أخرجت "قردة" السيجار من فمها، وأجابت بصوت لا يخلو من حزن: "لا يا عزيزي، ليس من عادتي أن أنسى الناس بسرعة، رغم مرور ثلاث سنوات كاملة منذ رأيتك آخر مرة، وها أنا الآن أقرأ باول دي كوك، ذنوبي الوحيدة هي تلك التي ارتكبتها في عالم الخيال والكتب. لكن تعال، دعني أتأمل وجهك."
   انصاع السندباد لقردة وهي تقوده من الردهة المظلمة إلى الغرفة المطلة على الشارع. هناك تكدّس الأثاث القديم، وانتصب بورتريه والدها العتيق على الحائط، والذي تحول منذ زمن سحيق إلى صورة تراقب كل ما يجري تحتها. هناك أيضا بورتريه الطفلة الميتة التي كانت قردة -لفترة ما- عمّةً لها، وتحت البورتريه درج زجاجي يحوي صورا مبروزة لنفس الطفلة الفقيدة، وبقرب النافذة الكاناري العجوز الصامت، وعلى الأريكة، كان وشاحها المطرز ملقى بفوضوية، تماما كما شاهده السندباد في عنوانها السابق. رفعت المرأة ذقن السندباد لينتشر نور الشرفة فوق وجهه، شرعت تتفحص وجهه وعينيه بدقة، بينما انخرطت يداها تمسدان خصلات شعره.
   قالت بعد فترة صمت: "أتعلم يا سندباد؛ أحيانا أحبك بشدّة فلا أشعر أني عشيقتك –ذلك الشيء المنبوذ، المهمل، المنسي- وإنما أمك! أعرفك جيدا يا سندباد، وكما لو أني حبلتُ بك ووضعتك."
   جلس السندباد على الأريكة وأخذ ينتظر، بينما أغلقت "قردة" كتابها ووضعته جانبا فوق الدرج.
   "أنت من اشتريت لي روايات باول دي كوك، أتذكر؟ طلبتَ مني أن أقرأها وحيدة في البيت. لم أقرأ سواها منذ ذلك اليوم."
   بدأ السندباد يدندن لحنا قديما وهو يراقبها: لم تتغير طوال عشر سنوات. لقد كانت امرأة قوية، تنضحُ صحةً، شقراء، داكنة، بين الثلاثين والأربعين من العمر، من النوع الذي يخلد إلى النوم مبكرا، ويصحو مبكرا، ولم يحدث أن وضعت أي مساحيق فوق وجهها منذ زمن طويل. تحب انتعال الشبشب، وإعداد الوجبات الشهية. صحيح، في مراهقتها، كانت تحب ركوب العربات وصحبة الرجال الذين يطرونها أثناء الطريق، واحتساء الشامبانيا، والإصغاء إلى فرق الغجر الغنائية، ورفع تنورتها الحريرية وهي ترقص على نغماتهم. لكن الملل أصابها بعد مدة، إذ أنه –وكما قالت- هناك كثير من النساء الطائشات، الشريرات، الملعونات، اللاتي صارت مدينة "بيست" تغصُّ بنهنّ، صارت تشعر بالخجل من أن يراها أحد مع هكذا صحبة. انتعال الشباشب أفضل بكثير.
   "اعتقدتُ أنكِ لن تتركي شجرات السمّاق في بيت بودا!" همس السندباد برقة. "لا أفهم لماذا رجعتي إلى جادة القطة؟ ألم تفارقيها بقرفٍ في شبابكِ كي تستقري في بودا الهادئة؟ على ما أعرف، ما زالت المنطقة مرتعا للراقصات والمغنين وعارضات الكاباريهات، يأمونها من كل صوب كي يؤدوا عروضهم. قردة! أنتِ لم ترجعي إلى مهنتك القديمة، أليس كذلك؟"
   "لا يا عزيزي" أجابت بوقار. "لديّ فساتيني الجميلة، وقبعاتي الغالية، لكني لا أرتديها إلا حين نخرج سوياً. عشر سنواتٍ وأنتَ تعِدُ بأخذي إلى السيرك، وها أنا أنتظر منذ عشر سنوات، كي أذهب إلى السيرك، رغم أني لم أبلغ من الفقر درجةً تضطرني إلى بيع أفخر فساتيني وأجمل قبعاتي..."
   كان السندباد يعلم من تجاربَ سابقة أين ستقودهما هذه الأحاديث، ولذا قاطعها سريعا: "قردة! كفى اتهامات! زرتي السيرك ما فيه الكفاية أثناء شبابكِ. السيرك يشبه كثيرا قاعة الموسيقى: المهرجون، والنساء الصاخبات، أليس كذلك؟"
   "لكن الخيول..."
   "خيول! خيول! رأيتُ من الخيول ما يكفيني حياةً كاملة. أعجز أن أفهم كيف لامرأةٍ رزينة، ومتقاعدة، ومحترمة، مثلكِ، أن تقضي سحابةَ نهارها وكاملِ ليلها تفكر بالسيرك!"
   اعترضت قردة بصوت جاد: "لكن يا سندباد! مضت عشر سنوات منذ وعدتَ بأخذي إلى السيرك. كان ظهرك يؤلمك، ولم يكن بإمكانك النوم إلا إذا قمت بتهميزه. قلتَ أنك ستأخذني إلى السيرك لو تحسّن ظهرك، لكنك لم تفعل. لا أذهب بمفردي إلى أي مكان هذه الأيام يا سندباد. لم يعد هناك أحد. فقط أنت يا سندباد."
   انحنى السندباد إلى الأمام وأخذ يداعب يد قردة.
   "لقد لهونا بما يكفي، وشربنا الحياة إلى الثمالة يا قردة. أنتِ نفسكِ، ذات مرة، رقصتي في صفوف الجوقة... دعيني أقترح شيئا آخر: عندما يأتي الربيع، سوف نختار ظهيرةً مشمسةً رائعة، سنحزم أغراضنا، وسنمضي في نزهة بين تلال بودا. نركب عربة تجرها الجياد فوق الدانوب، وسيصوّت الجسر بوقع حوافرها. سيطلق الحوذي النفير، وسيجلس قبالتنا زوجان من الأرياف، يسألان كل برهة: هل وصلنا حمامات قيصر أم ليس بعدُ؟ سوف تخبُّ الخيول قُدما، وستتدحرج العربة على طول السكة. سيكون هناك أطفال يركلون الكرة في ساحة سنّا، ورجل يعزف الأكورديون في أحد هذه النُزل الجصية المزينة بالتعريشات، لكن لن نترجل هناك، لا، وإنما سنواصل التقدم، وسيغمز الحوذي بوقه ثانية، وسيسأل الزوجان الريفيان مرة أخرى إن كنا وصلنا حمامات القيصر. ستزكم أنوفنَا رائحةُ تلال بودا، وسنجلس جنبا إلى جنب وكما لو أننا زوجين سعيدين؛ أنا موظف حكومي متقاعد، وأنتِ زوجتي ذات العشرين ربيعا، وسيكون لدينا مقدار محترم من المال في المصرف الصربي في بودا، وسنكون قد وضعنا عيوننا منذ مدة على منزل في سانت لورنتز، مكانٍ بحديقة صغيرة حيث تربين بطكِ ودجاجك..."
   "أيها الوغد!" هتفت قردة بصوت يتنازعه الضحك والبكاء، وطوّقت عنق السندباد بسعادة.
   "أليس ذلك أفضل بكثير من الذهاب إلى السيرك؟" سأل السندباد بصوت راضٍ.
   "أفضل مئة مرة!" أجابت قردة، وأضاءت عيناها ببريقٍ وكما لو أنهما عيني طفل أثناء الكريسماس. "فلتكن رحلةً إلى التلال، وقتَ الربيع، وسنستلقي فوق العُشب."
   "لتكن يا قردة. والآن أخبريني؛ ماذا فعلتي منذ رأيتكِ آخر مرة؟"
   هزّت كتفيها. "لا شيء، هذا ديدني هذه الأيام... هل تذكر أخي الأسمر الذي كان ينشد الأغاني الراقصة في قاعة الموسيقى ويعمل في السكك الحديدية؟ هل تذكره؟ المسكين، لقد ورّط نفسه في مشكلة ورحل إلى أميركا. لم يعلم أحد، لأني دفعت ضمانته وأخرجته من السجن. كلفني كلَ ما أملك."
   "والودائع أيضا؟"
   "لقد أبقيتها في الخزانة ولم استخدمها بعد."
   "ومجوهراتك؟"
   "بحق الله! منذ متى أهتم بالمجوهرات؟ هذا كله في عداد الماضي حين كنتُ بلهاء."
   هزّ السندباد رأسه واستغرق بالتفكير. هتف متذمرا: "هل كان لزاما أن يغني أخوك طوال الوقت؟"
   "لا يهم الآن. عدتُ إلى جادة القطة، إلى المنزل الذي كنتُ أملكُ -ذات يومٍ- طابقه الأولَ بكامله، حيث كان الحوذي ميتروفيتش يتسكع طوال اليوم منتظرا خروجي. واللوردات، والإيرلات، كانوا يأتون من كل مكان كي يخرجوا معي، كنت صبيةً آنذاك. عدتُ لأني لا زلت أحتفط بمعارفَ هنا. راقصات النوادي يعرّجن بي كي يُصبن نصيبهنّ من الغداء. جمعت دخلا متواضعا من ذلك. والآن، لو صادف ظهور أحد هؤلاء اللوردات، سوف ألقي به أسفل السلالم."
   نفخ السندباد دخانه بهدوء وتمتم: "نعم، لطالما أحببتي الطبخ."
                                                ***
كيف تمضي القصة؟
    تناول السندباد –ذات مرة- غداءه عند قردة. كان هناك ستة أشخاص متحلقين حول المائدة، ولم يكن بينهم رجل آخرُ غير السندباد- عدا الكهل الذي يعتمر قلنسوة ضيقة، وربطة عنق أنيقة، ويراقب من على الجدار، دون أن يفتح فمه طوال تلك السنين، فلقد كان سجينَ إطاره الذهبي.
   تحلّقت النسوة حول المائدة، كلهنّ كنّا يقطنّ في منزل جادة القطة، جلسن بأروابهنّ المنزلية الطويلة، بعد أن أسدلنها فوق ملابسهنّ الداخلية، فلم يكن من عادتهنّ أن يتزينَّ قبل المساء، قبل أن يُدَقَّ الطبلُ الكبير، وتعلنَ الفرقة بداية الفقرة التالية. انهمرت شعورهنّ -التي سوف تُصفف بعد قليل بواسطة أمهر الكوافيرات- كالشلال فوق جباهِهنّ وعيونِهنّ، بعد أن رُجِّلت بالمشط كيفما اتفق. في بداية الأمر، انهمكن يرمقن السندباد بشيء من الفضول، بل إنّ إحداهنّ أخرجت ساقها المصقولة الرشيقة من طيات روب النوم، لكن حين تبينَّ لهنّ أن السندباد ليس متاحاً (كان ذلك أمام حساء الدجاج والخضار، تماما كما كان يشتهيه السندباد) وأنه يتناول حساءه تحت عين قردة الغيورة، حينها تركنه وشأنه، وأكملن باقي العشاء دون الاستعانة بأدوات المائدة. خمس فنانات، ضمن خصوصية الجدران الأربعة، انهمكن يمصصن شفاههنّ، ويلعقن أصابعهنّ، ويستمتعن بتناول الطعام، وكما لو أن السكاكين والأشواك –شأنها شأن المسكَرة والمشدّات- لم يكن لها غرض سوى تذكيرهنّ بحياتهنّ الحزينة، ومهنتهنّ البهيجة الكئيبة. إنها الظهيرة الآن، والمساء يقبع بعيدا في المستقبل، ولذا استغرقن بالأكل بمتعة عظيمة. إحداهنّ كانت فتاة ناعمة القسمات، حمراء الشعر، بدأت  تنشد أغنية قروية سمعتها في الأيام الخوالي، حين كانت في القرية. كانت الأغنية تدور على لسان أحد المجندين: "لو أن أمي استطاعت رؤيتي في المدينة..." أصغت النسوة بانتباه إلى أدائها العاطفي، وترقرق الدمع في عيني إحداهنّ، من يدري ماذا كان يجول في خاطرهنّ؟
   إحداهنّ أبت أن تترك السندباد وشأنه. كانت فتاةً لعوبا، دقيقة العظام، ابتسامتها غريبة، طفقت تمسدُّ بقدمها الصغيرة ساق السندباد تحت الطاولة، وهمست في أذنه حين واتتها الفرصة: "تعال إلى قاعة الموسيقى هذه الليلة."
   رصدت قردة مباشرة ما قامت به، وهسّت نحوها بصوت أقرب إلى الفحيح: "أيتها الأفعى! حذارِ من سمي!"
   هربت الفتاة، وتبعنها الأخريات، بعد أن لبثن برهة، لعبن فيها بفتات الخبز، وجعلن منه كورا صغيرة، بأناملهنّ الناعمة، ثم تفرقنّ في أركان المنزل، متثائبات، ناعسات العيون، أيديهنّ في جيوبهنّ، ليخرجن حين يهبط المساء ويُقرع الطبلُ في الفرقة، بقبعاتٍ ريشية عظيمة، وفساتين باهضة الثمن، مرصعةٍ بالجواهر. حينها، لا أكل بالأصابع، ولا غناء من الأعماق، فلقد بدأ وقت الفرقة وابتلعهنّ، فقط في وجبات غداء قردة يمكن لهنّ أن يسترخين دون تصنعٍ أو كَلَفة.
     "يبدو أن هؤلاء البغايا لا يزلن يأسرن قلبك!" شنّت قردة هجومها بمجرد أن خلت لها الغرفة. "كان الغداء اختبارا لك. استبدّ بي الفضول: هل ستحافظ على رباطة جأشك إذا وجدت نفسك في صحبة أربع أو خمس من النساء، إذ أنّ هذا ما يجدر بك الآن، أيها الكهل الخليع! كدتَ تقفزُ من الفرح عندما بدأت الخبيثة تمسدُّ ساقك. حسنا يا عزيزي، تعلم أين قلتُ لها أن تذهب. كما قلتُ لك، هذا الغداء مجرد اختبار. أنا امرأة مسكينة، لن تتغيرَ أبدا."
   هزّ السندباد كتفيه وزمجر: "لا أفهم نيافتكِ! تحضرين الراقصات، ثم تتذمرين حين أكون مهذبا معهنّ."
   احمرّ وجه قردة غيظاً: "يجب أن تكون وقحا مع هكذا نسوة! رباه! لو عرف الرجالُ النساءَ كما أعرفهنّ لتوقف كل هذا الهراء عن الحب. افهم يا عمري: المرأة خراب العالم، وبالأخص الصغيرات، إنهنّ الأسوأ. لن أثقّ بواحدة منهنّ، حتى المسنات. عقل المرأة مصنوع للتدمير، إنها تنسج حبال الحب خصيصا كي تدمّر الرجال. إنها تتاجر بالشرف والمجوهرات. هل تريد روح العصر؟ فكر بعجوز رثة الهندام! لا يا عزيزي، أنا لن أستحمل أي رجل في شقتي. يجب على النساء أن يكنّ محافظات هنا. آه، لقد عرضن عليّ مبالغ طائلة كي أسمح لهنّ باستضافة الرجال، لكن لم أعد أحفل بالمال. أنا لا أطالب بالكثير: الشرف، والنظام، والتأدب. الشرف! ها هنا شيء ذو قيمة في هذه الحياة. أتعلم؟ لهذا السبب بالذات تقصدني الراقصات. ليس لأنه من السهل استئجار غرفة هنا. ليس كل أحد يستطعم مذاق أكلي. وإنما لأن المستأجرين السابقين لديّ يتحدثون بإطراء عني. هنا، يبرأ المريض، ويسمن الهزيل، ولا أسمح لهم بتبديد أموالهم. يأتون إليّ بالأسمال والخزي، ويرحلون أيسر حالا وأحسن ثيابا. ذلك لأني أمينة، لا أتاجر بالمجوهرات والشرف."
   استمع السندباد وهو يومئ برأسه بين الفينة والفينة إلى قردة. نعم، هو أيضا يحترم سلوكها، وتعجبه طريقتها، لم يتأخر عن إخبارها بذلك.
   تقبلت قردة الثناء، لكن فورة الغضب لمّا تزل تتلظى في خديها. ألقت ببعض الحبوب نحو الكناري العجوز الصامت، ثم سوّت تجاعيد فستانها، وجلست مقابل السندباد. "فيما مضى، عندما ساعفني الحض بالتعرف عليك، كنتُ حريصة ألا أكدّرك. لكن اليوم، وبما أننا نناقش الموضوع، أستطيع أن أخبرك مباشرة بأني أعرف كل امرأة وقعتَ في غرامها هذه السنوات العشر الأخيرة."
   "أنتِ من هويتُ دائما وأبداً." أجاب السندباد.
   "ما أعرفه عنك يجعلني أجزم أنك تفكر الآن في واحدة أخرى هذه اللحظة. لأني أعرفك يا سندباد، وكما لو أني حبلتُ بك ووضعتك. أعرف متى تحبني ومتى تعزفُ عني. لم يتغير حبي نقطةً واحدة. أمر غريب –أعلم ذلك- بالكاد أفهم نفسي. وقعت في حبك قبل عشر سنوات، وعلمت مباشرة أني سأحبك إلى آخر أيام حياتي. حتى بعد أن تموتَ يا سندباد، لن أستطيع أن أنساك. بما أنّ حظي السيء أوقعني في غرامك، وأحيانا لا أراك لسنوات، كان لزاما أن أعرف ماذا تفعل. لهذا كنت أتعقب كل خطوة لك، أسأل عن شؤونك كلها، وأحقق في كل واحدة من صبواتك. لم ترني قطّ، لكنك لم تعزب عن نظري مرة واحدة. حتى عندما تنام، كنتُ أطالعُ وجهك النائم كي أعرف أحلامك. أردت أن أفهمك لأني كنت أعلم أنني لن أستطيع العيش دونك."
   "وصل بك الأمر أن تقومي برشوة خدمي؟" سأل السندباد بحدة.
   "لا يعنيك كيف وقعت على مغامراتك الغرامية. هيا انصت، سوف ترى كيف أعلم كل شيء."
   تقدمت نحو الخزانة وتناولت دفترا نحيلا يشبه كتاب أدعية. "هنا أكتب الأشياء التي لا أريد أن أنساها. ها نحن ذا: الثاني والعشرون من حزيران، زوجة المحامي ك. تعيش منفصلة عن زوجها وتنتظر على الجسر المعلق. الساعة الخامسة مساءً. يصل سندباد في عربة مغلقة، رقم ثلاثة وسبعون، تعتلي المرأة العربة. تمضي ساعتان وهما يتجولان جيئة وذهابا وراء الستائر على طول شارع هيداكوتي. تتكرر الرحلة أسبوعيا من حزيران إلى تشرين الأول. أثناء هذه المدة، تترك زوجة المحامي ك. زوجها عصر كل أربعاء، وتتسكع متأبطةً ذراع ضابط أشقر في معقل صيادي الأسماك. مرتان في الأسبوع تقضي النهار في صالون المحظية الشهيرة مدام س. حيث يتردد رجال بارزون."
   قفز السندباد على قدميه: "محض افتراء! كانت امرأة محترمة."
   هزت قردة يدها وكما لو أنها تنفض ذبابة. "ليس من عادتي الكذب يا عزيزي. أعلمُ ما أعلم. كنتَ غارقا حتى أخمص قدميك في حب تلك المرأة. صحيح، لقد شعرتُ بالأسى تجاهك، لكني لم أرد لوهمك أن ينقشع عن صدمة. سمحت للوقت أن يعمل عمله، وسبحان الله، ها أنت ذا بجانبي وكما لو أنك تحبني مرة أخرى. دعنا ننتقل إلى صفحة أخرى. التاسع عشر من أيار. فلورا، سكرتيرة في إحدى الشركات، كائن مدور صغير، شعر بنيّ، حَوَل خفيف. يرافقها السندباد كل ليلة إلى البيت، أسابيع وشهورا بلا نهاية، إلى أن يتمكن من إغوائها، ثم يهجرها مباشرة. استغرق الإغواء كل ذلك الوقت لأن فلورا غارقة في غرام أحد ممثلي الشركة، سوف يتقدم لخطبتها لاحقا..."
   "يا لكِ من شيطان يا قردة! لطالما اعتبرت تلك المرأة حلما جميلا وحزينا، من النوع الذي تستيقظ منه لتجد وسادتك طافحة بالدموع."
   أكملت قردة بنبرة جافة حازمة: "تم استبدال ممثل الشركة بآخر، وهذا هو ملخص حياة السيدة فلورا."
                                                ***
   أفاق السندباد ذات ليلة بألم حاد في قلبه. كانت السنة في أواخر الخريف وأوائل الشتاء، والثلج يسّاقط بهدوء في الخارج. استمرت صور الحلم تتدفق أمامه، وكلها كانت من حلمه المعتاد تلك الفترة: مئات الوجوه النسائية، قبعات، ودون قبعات، أصباغ، ودون أصباغ، عيون سيدات، وعيون آنسات، وكلها مصوّبة إليه وكما لو أنه الرجل الوحيد على الأرض. أكتاف عارية، وسيقان مغلفة بالجوارب، وأحذية بكعوب عالية، وبعد ذلك صف طويل من النساء بقمصان النوم، نساء يعرفهنّ السندباد، ونساء يتمنى لو أنه عرفهنّ، أذرع عبلاوات، وأخرى رشيقة، كلها تلتف حول عنقه. جيل من النساء يرتعشن تحت الأغطية، ويتكلفنَ شقلباتٍ في مراعي قلبه...
   أفاق فإذا بموكب نساء الحلم يتلاشى مع نور فانوس خافت، وإذا بربة منزل تحمل الفانوس، وتقطع طريقها عبر الساحة المغطاة بالثلج، والليلة الشتوية. بقي وهج الفانوس منعكسا لبعض الوقت فوق الحائط، أو على كومة القش، بينما تمايل خيال امرأة سوداء الشعر فوق تموجات الظلام، وبعد ذلك اختفت أخيرا، تلك المرأة الأخيرة، بعينيها الصبوحتين، وقبعتها الريشية، اختفت في الفضاء البعيد، تاركة السندباد وحده مع وجع القلب. بعد ذلك بقليل، أيقن السندباد أنه سيموت قريبا، ربما في غضون الساعة القادمة.
   لبس ثيابه سريعا، وجلس فوق التكية العثمانية. كان خائفا في البداية، فلطالما آمن أنّ بإمكانه تأجيل الموضوع، رغم أن صحته آخذة بالتدهور مؤخرا، وصوته بدا أجشَ وغريبا، كما لو أنه صوت صديق من الطفولة يصل من الغرفة المجاورة. قد يكون الفتى بينيو! فكلما انهمك في إحدى هذه المحادثات المفككة مع نفسه، إذا به يسمع صوت الفتى بينيو يتحدث من الغرفة المجاورة.
   "سأموت قريباً،" أخبر السندباد نفسه، بصوت تكسّر على هيئة نبرات منفصلة. "نعم، نعم، أستطيع أن أسمع صوت بينيو الصغير في الغرفة المجاورة."
   بالطبع، لم يتحدث السندباد بصوت عالٍ إلا في لحظات خوفه الأولى، فقد كان وحيدا في الغرفة الخالية، لكنه سرعان ما استرد جأشه، واستطاع أن يحرّك أجفان عينه المشلولة مرة ثانية، حتى الألم بدأ يرخي قبضته على قلبه.
   وقف على قدميه، وانتقل إلى البلكونة، حيث غطى الثلج أحواض الزهور المتبقية من الصيف. كان الوقت فجرا، والمدينة نائمة، وندف الثلج تتساقط ذات اليمين والشمال حول رأسه. حدّق في الظلمة الهادئة بعض الوقت، دون أن يفكر- وفجأة، رأى نفسه طفلا ينتعل خُفاً دافئا، ويتدثر بمعطف فرو صغير، ويشق طريقا له بجانب الكنيسة القديمة، فوق أعشابٍ يتخللها بياض الثلج. كانت هناك غربان تستقر فوق صليب البُرج، واقتربت امرأة محمرّة الخدين بهيجة الهندام، تحمل دلو ماءٍ من البئر المتجمدة القريبة. ترامت البلدة الحُلمية من حوله في كل اتجاه، بينما طفق هو ينهجُ فوق الدرب المجلل بالثلوج والعُشب.. وبعد أن اجتاز الكنيسة لاحظ شيئا آخر: كانت هناك امرأة تقف خلف شرفة وستارة بيضاء، وتسلّط فوقه عينيها الضخمتين، امرأة عبلة، ناضجة، أنفها معقوف، تعلو شفتيها ابتسامة شوهاء حسيّة، ابتسامة يمكن أن يكون رآها قبل ذلك، في مكان آخر، لو للحظة، في زمانٍ جدُّ بعيد... ثم اختفت الصورة، فإذا هو يقف ببساطة في البلكونة، تارةً أخرى، وأمامه تعصفُ أكوام الثلج.
   وحين تقهقر إلى الغرفة، كانت المرأة الناضجة ذات الأنف المعقوف لا تزال تشغل باله، امرأة طفولته، تلك التي رآها منذ مدة بعيدة وكاد أن ينساها. ها هو يراها مرة أخرى، ويحسُّ ذراعيها العبلاوين، وكتفيها المتورمين، وظهرها الأسمر الموشّى بعكن الشحم، كانت هناك شامةٌ أيضا، في مكان ما... لأصابعها أظافرُ لامعة دقيقة، وتلك الأظافر البيضاء تتلمسُ جسد السندباد بطريقة أنثوية آسرة. أحسّ بالأظافر الأنثوية الباهرة أولاً فوق قدميه، ثم على جبينه، ثمّ فوق صدره. وافترّت الشفاه الممتلئة عن تلك الابتسامة الشوهاء، سمع صوتاً؛ نصفه تنهد، ونصفه فحيح، فوق رأسه، وكما لو أنّ طيرا انبعث يضرب بجناحيه عبر الغرفة.
   وأحسّ السندباد تارةً أخرى بالحبال تُشدّ حول قلبه، وعقد العزم على الإعداد لموته القادم. حبّر بضعة سطور إلى "قردة" تصف وضعه الراهن: سأرحل في الصباح! استلم خادم النُزل رسالته وانحدر متسكعا فوق السلالم، صفيرُه يعلو ويهبط بسعادة، مترقبا أجرا جزلا. لا بدّ أنها مهمة غرامية أخرى يكلّفه إياها النزيل رقم خمسة، تماما كما في الماضي، عندما كان يحضر المؤن الليلية من الشامبانيا والشاي والسجائر وأشياء الصيدلية، وكان هناك دائما فيضٌ من الفضة والنُضار ينسلُّ إلى جيبه.
   وبينما انطلق خادم النُزل لإنفاذ مهمته، استلقى السندباد فوق سجادةٍ رثّة، شعر أن ذلك ما يريدُ أن يفعلَه. بسط ذراعيه، وشرعَ ينظر بجمودٍ ويأس إلى المصباح فوقه. طالما استطاع رؤية الفانوسين الكرويين سيكون بخير. وهكذا، انهمك يحدّق في الكرتين الزجاجيتين اللتين كانتا –فيما مضى- تجهران البصرَ بضوئهما اللامع وهو ينسكبُ فوق أكتاف طوابيرَ من النساء.
   استمدّ حتى تلك اللحظة قدرا كبيرا من الطمأنينة من تحديقه في الضوء، لكن الآن، أصدرت إحدى الكرتين الزجاجيتين زفيرا مفاجئا، سرعان ما أتبعته الكرة الأخرى بزفرة مشابهة، بدا وكما لو أنّ مريضاً زَمِنا يتقلب في فراشه... في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، في الماضي، كان والده يستلقي على السرير، والده الجميل الكئيب. كانت ليلة رأس السنة، والسندباد الفتى يمسك بكفيه.
   "سوف تدرك رأس السنة يا والدي. رأس السنة سوف يأتي بالفأل الطيب."
   فتح المحتضر عينيه اليائستين الحزينتين: "أتظن ذلك؟" سأل ثم أشاح بوجهه.
   تمنى السندباد فجأةً لوالده موتاً سريعا، كي لا يتعذبَ أكثر. سوف تنقطع الآهات وصرخات الألم...
   "وعزبتي يا دكتور! لو أستطيع فقط أن أعيش أسبوعا آخر..."
   نعم، كانت هذه كلماته. مات مبكراً. والآن، بدا وكما لو أنّ السندباد يسمع إحدى الكرتين الزجاجيتين تعيد هذه الكلمات للكرة الأخرى.
   جسدُ امرأة آخر، أو بالأحرى جزء من جسدها، هوّم أمامه: عبلاً، أبيضَ، كرةَ مرمر. استطاع أن يرى الظل الأسود الزرقاوي يجلل الكرة المرمرية، كان واعياً حتى النهاية بنَشرٍ من العطور اللذيذة الُمتَذكرة، تهبُّ فوق رأسه.
   سرعان ما وصلت "قردة" إلى الشقة، وأغلقت بكل حنان عيني السندباد.
                                                ***
تحوّل السندباد إلى برعم دبقي. برعم من الدبق، ضمن زنّار زهور، تضعه راهبة عجوز حول خصرها. في البداية، كان الأمر مملاً، ندم لأنه لم يختر وظيفة أخرى عندما واتته الفرصة في مصلحة اختيار المهام المناطة بالمرء بعد موته. عاين المهام المتاحة واستقرّ على ثلاثٍ وجد نفسه فيها، يستطيع أن يقضي أيامه وهو يؤديها في صمت ودَعة. الأولى: جندي لعبة، لعبة ضائعة منسية في إحدى العليّات المظلمة. ماذا يريد المرء أكثر لحياة التقاعد؟ كاد السندباد أن يوقِّع عقده، لولا أن ظهر في المصلحة صائغٌ أشهبُ اللحية، حزين التعابير، يملأ صدغه ثقب فاغر الفوهة، حيث دخلت الرصاصة. لقد قتل نفسه من أجل امرأة، وترك لها سائر بضاعة دكانه. رقّ السندباد لهذا الرجل الحزين الهيئة، فكر بكل الرجال الذين تم خداعهم ونشلهم ومن ثمّ لفظهم من قبل النساء، رجال كانت النساء يتطلعن فيهم متسائلات: متى سيضعون رصاصة في أصداغهم؟ وهكذا، تخلى عن فكرة الجندي اللعبة، ليهب الصائغ أولوية الخيار.
   بالنسبة إلى خياراته الأخرى، كان مغرىً بما فيه الكفاية كي يكون مشطَ زينة. لكن كيف يعلم المرء أين ينتهي به المطاف؟ قد تكون المرأة وسخة! فكّر السندباد: إنه لأمر لطيف أن تظلّ حيّاً! وهكذا استقرّ خياره في النهاية كي يصبح برعما دبقيا في زنّارٍ من الزهور. ليس هناك ثمّة أخطار، ومن الصعب أن تتورط في عراك أو ما شابه، كما أنه سيكون باستطاعته أن يجسَّ يدَ امرأة، البعض يستمتع طويلا بشيء مثل هذا بعد موته. لسوء الحظ، كانت الراهبة العجوز التي استقر ضمن ممتلكاتها -والتي تلبسه حول خصرِها- مسنّةً بعض الشيء بالنسبة إلى ذوقه. كانت تكبسُ عليه بين إصبعيها، بينما لسانها منهمك بترتيل ابتهالاتها، لكن لسوء الحظ، هذه أشياء غير ذات أهمية بالنسبة إليه. كانت مجموعةً من الابتهالات والصلوات المملة تنبعث نابضة عبر جسده: صلاة لتجنب عسر الهضم، وصلاة من أجل نوم عميق، وأخرى لادّراء غضبة كبيرة الراهبات، فقط مرةً واحدة، كانت هناك صلاة تشير بشكل مبهم إلى راهب يُدعى فرانسيس، تنبه السندباد من سباته، وأصاخ السمع. مستحيل! هل يُعقل؟ فكّر برعمُ الدبق. لكن لا، لسوء الحظ، لقد كان فرانسيس المقصود كهلا طاعناً، يكاد يكون قديسا، أصيب بنوبة برد أثناء أدائه قُداس منتصف الليل، كان يستلقي فوق فراش مرضه في بيت القساوسة. أصيب السندباد بالملل من طعام الفضيلة والتقوى هذا، وتفكّر بألمٍ كيف أنه لم يُخلق لحياةٍ أخلاقية عالية كهذه، ولو استمر الأمر هكذا، لن يصل أبدا إلى حالة التطهر من آثامه. بدأ يندم لأنه لم يختر أن يكون جنديا لعبةً، من يعلم أيّ مغامرة كانت تنتظره؟ وبنفس الحماس، تمنى لو أنه اختار أن يكون مشط زينةٍ في مفرق عاهرة. حالة الجلال هذه هي ما لا يستطيع أن يحتمله.
   وفي أحد الأيام، شرعت الراهبة وبرعم الدبق في رحلة. انطلقا مُجلجلين عبر بوابات الدير في عربةٍ مدبوغة الجلد تجرها جياد مطهمة. انتقلا من العربة إلى القطار، واستقلاّ –بالطبع- مقصورة النساء، حيث انهمكت الراهبة العجوز تتحدث مع سيدتين مُسنتين لا حديث لهما سوى كوارث سكك الحديد. لم يغدُ الحديث جديرا بالاهتمام إلا عندما ذكرت إحدى السيدتين أنها عزفت عن حياة الرهبنة لأنها لم تستطع العيش دون رجال... "رجلي العجوز جوهرة حقيقية" هكذا قالت، واحمرّت خجلا، لكن بشيء من الفخر. أطرقت الراهبة ببصرها، لكنها فيما بعد، سألت السيدة عن عمر زوجها، واستعلمت عن ملامحه، وعاداته، وخلاف ذلك. لم ينتبه السندباد إلا لتلك الإجابات التي تخصُّ عادات زوجها: إذا شرب كأسا أو اثنتين، قد يصل به الأمر أن يهرع إلى العليّة من أجلها ويحضر الملابس التي علقتها هناك كي تجف قبل أسبوع.
   وصل القطارُ المحطةَ قبل أن تشرعَ السيدة الأخرى بسرد بطولات زوجها الراحل. ترجّلن من  العربة، وفجأة، وعى السندباد أنه لم يعد ملتصقا بتنورة الراهبة التقيّة، والتي -لكونه برعمَ دبقٍ- أصبحت مهترئةً من الاحتكاك المتواصل به. ياله من حادثٍ مبارك ذاك الذي فصله عنها! انحشر السندباد بين قضبان الحديد: مرت عربات القطار فوقه، ألقى رجال الإطفاء الرماد عليه، سقطت قطعة قصدير بقربه، وفي جوفها ساق بطة تمّ نهشها بشكل جيد. حاولت هذه الجارة المؤذية أن تعقد صداقة معه، لكن السندباد تصنع النوم، إلى أن هبط الليل، ثم نجح في التسلل دون أن يلحظه أحد، تاركا قضبان الحديد خلفه، ومنجرفا عبر البلدة التي سرعان ما تعرّف عليها.
   ياللسماء! أليست هذه هي نفس البلدةَ التي زارها قبل موته؟ لماذا لم يلحظ النفق الذي اجتازوه مباشرة قبل المحطة؟ لقد كانت بلدةً جبلية صغيرة، مليئة بعمال المناجم السعداء ومستخرجي الذهب. يقضي السكان سحابة يومهم وهم ينقبّون في الأودية عن الذهب، بينما يُشرِع الأقزام نوافذهم للتهوية، فيظهر ذهبهم المكدّس. هنا العمدة، والكاهن، ومعلم المدرسة. لكن عندما يهبط الليل، تُضاء البلدة، ويحتفل الجميع مزجّين أوقاتا طيبة. لن نموتَ أبداً، يقولون لأنفسهم، هناك ذهب كافٍ في هذه الجبال. تبدأ الأغاني، والعزف على الآلات، ونقر الكؤوس، وتجلجل ضحكات النساء وكما لو أن أحدا يدغدغهنّ. كان للسندباد قريبةٌ هنا تزوجت من منقّبٍ للذهب.  القصة كالآتي: قريبته تُدعى باولا، طلب منقّبُ الذهب يدَها من والديها بعد أن زار "بيست". قبّلت باولا السندباد خلسة بعيدا عن الأنظار، وهمست في أذنه أنه يجب أن يزورها حين تكبر وتمَلُّ من زوجها، هذا إن كان لا يزال يراها جذّابةً. وهكذا تعرّف السندباد على بلدة التعدين هذه أول مرة: وبسطت زوجة منقّب الذهب جواهرها أمامه، وفروها الباهض، وعربتها، وجيادها الأربعة. أستميحكِ عذراً، همس السندباد، جئتُ مبكراً للغاية. تركها، ورسم بالطبشور صليبا فوق بوابتها كي يهتدي إليها مرة أخرى لو سلك الدرب ثانية. ولكنه مات أثناء ذلك... وتحول بُرعما دبقياً. ورغم ذلك، سرعان ما اهتدى إلى البوابة، وها هو الآن في غرفتها.
   جلست زوجة منقّب الذهب أمام المرآة، وأخذت ترجّل شعرَها. كان شعرها ذهبيا طويلاً، والمشطُ ينزلق برشاقةٍ وسط طيّات خُصله وكأنه زورق يسبح في الماء. وتحرك المشط، أعلى وأسفل، كان تلك اللحظة أكثر الأغراض المنزل سعادة وفخرا، كيف لا، وقد كان في حياته السابقة مجرد معلم رقص يقطنُ في إحدى ضواحي "بيست" الفقيرة. "كان بإمكاني أن أغدوَ مشطاً!" فكّر السندباد، ثمّ حاول أن لا يثير الانتباه إلى نفسه.
   توهّج المشطُ أكثر وأكثر، وامتلأ إشراقا وفخرا، رغم حسد الخزانة المجلوّة بالمرآة، والسرير المغطى بملاءات الحرير. كانت بطانة السرير من الحرير الذي لا تجد مثله إلا في غرف الملوك ومنقبيّ الذهب. اختلطت نوافج المسك سوياً وضمّخت مخدعها. تمدّد السندباد –بالقدر الذي يستطيع أن يتكلّفه برعم دبقي حين يهمُّ بالتمدد- وفكّر كم كان حماراً حين لم يهرب من صاحبته السابقة في وقت أبكر.
   خلعت المرأة -بعد أن فرغت من تمشيط شعرها-  كل ما عليها من ملابس. كانت وكما لو أنها حُلم الثلج. تجوّلت في مخدعها، أجرت يدها فوق تنورة الحرير الملقاة فوق ظهر الكرسيّ، تنهّدت، ثمّ اختفت خلف مُلاءات السرير. وبعد ذلك أطفأت النور.

 ترجمة : عدي الحربش
July 21 / 2016