الأحد، 28 أبريل 2013

وجه فينوس و بوتشيلي


بالنسبة لي، لوحة بوتشيلي المفضلة هي ولادة فينوس The Birth of Venus ، و بالأخص، الطريقة التي رسم بها بوتشيلي وجه فينوس. أستغرب كيف صرف نقاد الفن كل ذلك الوقت على وجه الموناليزا، ليتركوا فينوس بوتشيلي.

في عصر بوتشيلي، عاشت في فلورنسا سيدة باسم سيمونيتا فيسبوتشي Simonetta Cattaneo de Vespucci أو سيمونيتا الجميلة la bella simonetta كما كانوا يطلقون عليها. كانت أكثر الفتيات جمالا، و في يوم وفاتها خرج أهل فلورنسا خلف جنازتها و هم يبكون شبابها الذي انقضى في الثانية و العشرين بسبب السل. يُقال أن سيمونيتا كانت على علاقة بجيوليانو دي ميديتشي، سليل العائلة المتسيدة في فلورنسا، تلك العائلة الشهيرة التي رعت الكثير من فناني النهضة كمايكل آنجلو و بوتشيلي، لهذا السبب كلف جوليانو الرسام بوتشيلي برسم أكثر من لوحة و بورتريه لعشيقته سيمونيتا الجميلة. 


رغم أن كثيرا من النقاد ينفون أن تكون سيمونيتا هي فينوس المتواجدة في لوحة بوتشيلي، و يعززون هذا الزعم بحقيقة أن بوتشيلي لم يرسم  لوحته هذه إلا بعد عشر سنوات من وفاة سيمونيتا فيسبوتشي، إلا أني متأكد من كونها الفينوس الموجودة في اللوحة. هناك تشابه واضح ما بين البورتريهات الموجودة لسيمونيتا و بين فينوس، كما أن كثيرا من المؤرخين يؤكدون عشق بوتشيلي لسيمونيتا، و أنه بقي يحبها حتى آخر أيام حياته، حيث مات دون أن يتزوج، و حيث أوصى أن يُدفن تحت قدمي سيمونيتا في كنيسة أوجنيسانتي بعد وفاته.

إذا كانت هذه النظرية صحيحة، فهذا يعني أن بوتشيلي رسم سيمونيتا من ذاكرته، بعد مرور عشر سنوات من وفاتها. انظر إلى أي بورتريه رُسم أثناء حياة سيمونيتا، و اخبرني ما الفرق بين هذا البورتريه و بين وجه فينوس؟





في البورتريه تظهر سيمونيتا كتمثال من الرخام، أرضية، لا تعابير، فقط تمثال يجسد الجمال الأرضي. و لكن وجه فينوس.. وجه فينوس موضوع آخر كلياً.. بعد انقضاء عشر سنوات من الفقد و من الحب غير المُبادل .. ما الذي أضافه خيال و حب بوتشيلي لوجه سيمونيتا؟

تظهر فينوس حزينة، حالمة، و كأنها تتطلع من عالمٍ آخر، و كأن الموت يفصلنا عنها (أو يفصل بوتشيلي عنها).. بينما الرياح تتلاعب بخصل شعرها الذهبية. انظر إلى الحب الذي رُسمت به خصلات شعرها المتطايرة،  الحب الذي رُسمت به عينيها الحزينتين، الحب الذي رُسمت به شفتيها الشاحبتين، كل لمسة ريشة مضمخة حتى الثمالة بالحب. 

لا أحفل بالصدّفة التي تقف عليها فينوس، لا أحفل بزفير و و لا بكلورس، و لا بالمرأة التي تنتظر فينوس على شاطئ البحر و معها وشاح، بالنسبة لي كل اللوحة تتركز في وجه فينوس.. بالنسبة لي هذه اللوحة تدور حول الحب غير المُبادل the unrequited love .



شكسبير وسيرفانتس




شكسبير و سيرفانتس، ما الذي يجمع بينهما؟
الجواب: أنطوني بورجيس. 

قرأتُ قبل شهر قصة قصيرة رائعة للكاتب البريطاني أنطوني بورجيس Anthony Burgess بعنوان: لقاء في فالادوليد A Meeting in Valladolid. القصة موجودة في مجموعة بورجيس للقصص القصيرة مزاج الشيطان The Devil's Mode. ما دفعني إلى شراء المجموعة هو تجربتي الجيدة مع بورجيس في روايته الساعة البرتقالية، و الولع الذي أشاطره بورجيس في تناوله كل ما هو تاريخي و قديم و خصوصا الفترتين الإليزابثية و الفيكتورية. في نفس المجموعة يتناول بورجيس شخصيات تاريخية عديدة، ابتداءا من شكسبير و سيرفانتس، و مروراً بآتيلا الهان، و انتهاءاً بشرلوك هولمز، حيثُ يحضرهُ أنطوني بورجيس كي يحل لغزاً موسيقياً. 

رغمَ أن سيرفانتس و شكسبير عاشا في نفس الحقبة إلا أنه لم يسبق لهما أن التقيا. سيرفانتس لم يسمع بشكسبير، و لكن شكسبير قرأ الترجمة البريطانية الأولى لكيخوتة حسب النقاد و المؤرخين. هذه الحقيقة التاريخية لم تمنع بورجيس من أن يجمع هذين الأديبين المختلفين و المتشابهين في نفس الوقت في ثنايا قصته القصيرة. لكي يفعل ذلك، يتصور بورجيس عُرساً ملكياً أقيم ما بين العائلتين الإنجليزية و الإسبانية كي يوثق العلاقات المضطربة ما بين البلدين. يخرج شكسبير و فرقته المسرحية ضمن الحاشية الإنجليزية، و يستمتع بورجيس باللعب بشخصية شكسبير، فيجعله يتقيأ بمجرد ملامسته اليابسة، و يفصّل عن عاداته و أكلاته و تصرفاته. يسمعُ شكسبير منذ البداية قصيدة لشاعر أسباني يذكر فيها كيخوته و حصانه الهزيل روسينانتي فيتساءل عن هويتهما، ثم يحضر مهرجانا للثيران، يتقدمه رجل نحيف و تابع بدين، فيشرحُ له المترجم الأسباني أن هذين هما دون كيخوته و سانشو بانزا، شخصيات انبثقت من رواية الأديب الأسباني سيرفانتس. 

يُصاب شكسبير بالدهشة و الغيرة معاً، كيف يمكن لشخصيات خيالية أن تنبثق من كتاب؟ أن يعتنقها الشعب و تصبح جزاءاً من ثقافتهم إلى درجة أن يصبح كل شخصٍ هزيل طويل دون كيخوته. يتساءل مندهشاً: ماذا تعني بالرواية؟ يشرحُ المترجم الأسباني أن الرواية صنف يختلف عن المسرحية، هي كتاب يمتدُ لمئات الصفحات، كما أنهُ يحتوي الكوميديا و التراجيديا معاً. 

تُشكِل هذه الحقائق على شكسبير، إذ كيف له أن يفهم هذا النوع الجديد من الأدب و الذي لم يُعرف بعد في إنجلترا. كما أنه يصاب بالخيبة و يحس بالعجز مقارنة مع هذا السيرفانتس الذي ألّف كتاباً يحوي العالم كله. يعرض المترجم الأسباني على شكسبير أن ينظم لقاءا بينه و بين سيرفانتس. يحدث هذا اللقاء، و يدعو سيرفانتس شكسبير إلى بيته القشيب، و الذي يعكس فقره المدقع. الطريف بالأمر أن اللغة التي يستعملها الأديبان الأوروبيان كي يتواصلا هي العربية، لغة الحضارة آنذاك، إذ أن سيرفانتس وقع أسيرا لسنوات في يد القراصنة الجزائريين، أما شكسبير فلقد سبق له أن سافر مع أمير إنجليزي إلى المغرب. لا أتذكر الحوار جيداً، و لكني أتذكر أن سيرفانتس حطّ من قدر التراجيديا و قال أن الإله كوميدي و لذلك الكوميديا فن أعلى بالنسبة إليه.

يخرجُ شكسبير مضطربا من هذا اللقاء، و يهرع إلى فرقته المسرحية ليعكر نومهم و يقضّ مضجعهم. يبدأ مجموعة من الاقتراحات و التعديلات أمام دهشة فرقته، فيقترح أن يطيل المسرحية إلى ثماني ساعات، و يقترح أن يبدأ المسرحية بهاملت (أكثر شخصياته تراجيدية) و يختمها بفالستاف (أكثر شخصياته كوميدية). في اليوم التالي، و أمام الجمهور الأسباني، تُقام المسرحية، و لكن هذا الخليط العجيب لا ينجح، فيخرج الجمهور متأففا تاركين شكسبير في قمة يأسه و حيرته. 

يرجع الوفد الإنجليزي إلى الديار، و يموت شكسبير دون أن يجد حلاً يجعله يكتب شيئاً يماثل دون كيخوته في عظمتها و شمولها، و تشاء الصدفة أن يلتقي المترجم الأسباني بأحد ممثلي فرقة شكسبير و الذي جمع مسرحيات سيده المتوفي في كتاب واحد (الفوليو الأول First Folio). يتصفح المترجم الأسباني الفوليو الضخم بمسرحياته الستة و الثلاثين، ثم يقعُ على الاكتشاف الذي كان من شأنه أن يخفف يأس و قهر شكسبير لو قيل له أثناء حياته. صحيح أن شكسبير لم يكتب مسرحية واحدة كاملة شاملة تحتوي الدنيا بتراجيديتها و كوميديتها في آنٍ واحد كالكيخوته، و لكنه صنع شيئا مثل هذا بكتابته هذه القطع المختلفة التي عندما ضُمت إلى بعضها أصبحت دنياً معقدة و متكاملة. شكسبير اخترع الإنسانية كما يحبُ هارولد بلوم أن يقول the invention of the human. لا نستطيع أن نفكر بالغيرة من دون أن نستجلب عطيل، و لا بالتردد دون أن نستجلب هاملت، و لا بالحب دون أن نستحضر روميو و جولييت، و هكذا.

لقد صنع شكسبير دنياً تنافس أو تفوق في غناها و تعقيدها ما صنعه سيرفانتس، و لكنه لم ينتبه إلى ذلك لأنه صنعه في أجزاء. كان يحتاج إلى أن يرى كل هذه المسرحيات مجموعة في الفوليو ما بين غلافي كتاب كي يقع على هذا الاكتشاف و يصل إلى رضى. 




أيضاً عالم برونو شولز




هذه القصة جميلة جداً، و لا تتحقق متعتها كاملة إلا بعد أن تتم قراءة قصة الطيور في التدوينة السابقة. ها هنا استكمال لصراع الوالد (جاكوب) بما يمثله من أحلام و جمال ضد شهوانية الخادمة آديلا و واقعية الأم. يقول شولز في قصة عرائس الخياط Tailor's Dummies متحدثا عن والده: "والدي، ذاك المرتجل الأخرق، ذاك السيّاف المحامي عن ملكة الخيال، لقد شنّ حربا ضد دفاعات و خنادق الشتاء الأجوف الفاسد. فقط الآن أستطيع أن أفهم ذاك البطل الوحيد الذي خاض بمفرده حربا ضروساً ضد الملل الأولي الغير مفهوم و الذي كان يحيط بخناق المدينة. بدون أي عون، بدون أي امتنان من قبلنا، كان ذاك الرجل الأكثر غرابة يدافع عن القضية الخاسرة للشعر."

ها هي القصة.. استمتعوا..




الصراصير

لقد حصل ما سأحكيه خلال فترة الأيام الرمادية التي تبعت انتهاء حقبة والدي البطولية، تلك الحقبة ذات الألوان الباهرة. ما تبعها كان أسابيع طويلة من الكآبة، أسابيع ثقيلة بدون آحادٍ أو عُطل، تحت سماوات مغلقة و فوق أراضٍ قاحلة. والدي حينها لم يعد معنا. الغرف في الطابق العلوي رُتبت و أُجّرت لسيدة تعمل مشغلة هاتف. من مملكة الطيور لم تبق سوى عينة واحدة: الكوندور المحشو و الذي يقف الآن فوق الرفّ في غرفة المعيشة. وسط برودة غسق الستائر المسحوبة كان يقفُ هناك، كما كان يفعل أثناء حياته، على قدمٍ واحدة، وقفة حكيمٍ بوذي، وجهه اليابس الناسك تعلوه ملامح ثابتة من اللامبالاة و الزهد. عيناه سقطتا و نشارة الخشب تتناثر من محجريه المغسولين بالدموع. وحدها الزوائد القرنية المصرية المتدلية من منقاره و العنق الصلعاء أعطيتا رأسه الكهل مسحة من الجلال الملكي.


حُلته الريشية كانت نهبة للعُث في أماكن متفرقة، ريشه الناعم الرمادي أخذ يتساقط، و هو ما كانت آديلا تكنسه مرة كل أسبوع مع غبار الغرفة. لو أمعن الواحد النظر في هذه البقع الصلعاء لرأى قماش الخيش الغليظ يرزح تحت وطأة قطع القنب التي تتفصد منه.


لقد كنتُ ممتلئاً باستياء خفيّ تجاه والدتي، ذلك أنها استطاعت أن تتجاوز موت والدي بسهولة. لم تكن تحبه أبداً –هذا ما كنتُ أعتقده- و بما أن والدي لم يتجذر داخل قلب امرأة، كان من المستحيل عليه أن يمتزج بأية حقيقة، لذا كان محكوماً عليه أن يطفو أبدياً في أطراف الحياة، في المناطق النصف حقيقية، في حواف الوجود. لم يستطع حتى أن يحظى بموت مواطن صالح، كل شيء يتعلق به يجب أن يكون غريباً و مثيراً للريبة. قررتُ في لحظةٍ مؤاتية أن أجبر أمي على الانصياع لمحادثةٍ صريحة. في ذلك اليوم (لقد كان يوماً شتائياً ثقيلاً و الضوء كان من بداية الصباح خافتاً و غسقياً) أمي كانت تعاني من الشقيقة، كانت مستلقيةً على أريكة في غرفة الضيوف.


في تلك الغرفة الاحتفالية، تلك الغرفة التي بالكاد تُزار، كان النظام يحكمُ منذ موت والدي، مفروضاً من قبل آديلا بواسطة الصقل و التلميع. الكراسي جميعها كانت مغطاة، كل الأغراض استسلمت للانضباط الحديدي الذي كانت آديلا تفرضه عليها. وحدها حزمة من ريش الطاووس كانت تنتصب وسط مزهريةٍ تعتلي مجموعة أدراج لم تكن تخضع لإرادة التصنيف و الترتيب. تلكم الريشات كانت خطرة، عناصر طائشة، تخفي تمردها، و كأنها مجموعة فتيات مدرسةٍ شقيات يظهرن بمظهر هادئ و منضبط، بينما هنّ يتفجّرن عبثاً عندما لا يراقبن. عيون تلكم الريشات لم تتوقف عن التحديق، لقد أحدثن ثقوباً في الحيطان، غامزات، مرفرات برموشهنّ، متبسماتٍ فيما بينهنّ، مقهقهات و ممتلئات حيوية. لقد ملأن الغرفة بالهمس و الثرثرة، و انتشرن كالفراشات حول المصابيح الكريستالية، مثل جمع مهرجين اندفعن يلامسن أسطح المرايا المغطاة، المرايا التي لم تعتد على مثل هذا الصخب و البهجة. لقد كن يسترقن النظر من ثقوب المفاتيح. حتى بوجود والدتي، التي كانت تستلقي فوق الأريكة و لفافة شاش تحيط برأسها، لم تستطع الريشات أن يتمالكن أنفسهنّ، أخذن يتغامزن، و يعملن إشاراتٍ بلغةٍ صامتةٍ ساهمة تمتلئ بمعانٍ خفية. بدأت انزعج من جراء هذه المؤمرة التي تُدار وراء ظهري. انحنيتُ ملامساً بركبتيّ أريكة أمي، متحسساً بإصبعيّ النسيج الناعم لملاءة والدتي المنزلية، قلتُ بصوتٍ خفيض:


"لقد كان بنيتي أن أسالك منذ وقتٍ طويل: إنه هو، أليس كذلك؟"


و رغم أني لم أشر حتى بعينيّ إلى طائر الكوندور، و الدتي خمنت مباشرةً، و انتابها الحرج، و أطرقت برأسها و عينيها إلى الأسفل. سمحت للصمت أن يستمر مدة طويلة من أجل أن أتذوق حلاوة اضطرابها، و عندها، و بصوتٍ هادئ جداً، متحكما بغضبي المتصاعد، سألتها:


"إذن ما معنى كل هذه القصص و الأكاذيب التي تنشرينها بخصوص والدي؟"


و لكن ملامحها، و التي انقبضت في البداية في فزع، سرعان ما تمالكت جأشها و استرجعت سابق انضباطها.


"أية أكاذيب؟" سألتني، رامشة بعينيها، و اللتين كانتا فارغتين، ممتلئتين بزرقة سماوية مظلمة دون أي بياض.


"لقد سمعتها من آديلا،" قلتُ لها، "و لكني أعلم أنها تصدرُ منك، و أنا الآن أريد أن أعرف الحقيقة."


شفتاها ارتعدتا بخفية، تحامت أن تنظر مباشرة في عينيّ، أما بؤبؤاها فلقد أخذا يتحركان ناحيتي طرف عينيها.


"لم أكن كاذبة،" هي قالت لتنتفخ شفتاها و لتصغرا في نفس الوقت. شعرتُ أنها تتصنع الخجل، و كما لو أنها امرأة في حظرة رجل غريب. "ما قلتهُ بخصوص الصراصير صحيح، أنت بنفسك بالتأكيد تذكر.."


أحسستُ بالربكة. تذكرتُ فعلاً غزو الصراصير، ذلك الطوفان الأسود الذي ملأ الظلمة ذات ليلةٍ بعدوٍ عنكبوتيّ. كل التشققات في الأرضية كانت ممتلئة بهمساتٍ متحركة، كل تجويف تمخّض فجأةً عن صرصار، من كل فتحةٍ انطلق تعرج براق أسود جنوني. آه من حمى الفزع الوحشية تلك إذ انبعثت من خط سوادٍ لامع على الأرض! آهٍ من صرخات الفزع التي انبعثت من حجرة والدي، قافزا من كرسي إلى آخر و المزراق وسط يديه!


رافضاً الطعام و الشراب، مكتسياً ببقع من الحمى فوق خديه، و بتقطيبة قرفٍ ترتسم بثباتٍ فوق ثغره، والدي تحول إلى مجنون. كان من الواضح أنه لا يوجد جسم بشري يستطيع أن يتحمل لمدةٍ طويلة هذا المقدار من الكراهية. مقت رهيب استطاع أن يحوّل سحنته إلى قناعٍ تراجيدي، حيثُ كانت الأحداقُ تختبئ بترقبٍ خلف الجفنين السفليين، بتوترٍ و كأنها أقواس، بسعارٍ يملأه الشك و الريبة. ما أكثر ما قفزَ من كرسيه فجأة، مصدراً صرخة مريعة، ليجري بعمىً نحو إحدى زوايا الغرفة، و ليطعن بمزراقه إلى الأسفل، و بعدها حين يرفعه، يتبين جرم صرصار مخزوق يطوّح برجليه بيأس. تخفُ آديلا حينها إلى النجدة لتأتي و تأخذ الرُمح بما يحمله من غنيمةٍ من والدي المتعب الشاحب، و لتقذف به في السطل. و لكن، حتى في ذلك الوقت، حينما كنتُ أحادث أمي، لم أستطع أن أتبين إن كانت هذه الصور قد زُرعت في عقلي بواسطة آديلا و قصصها أم أني شهدتها مباشرة بنفسي. والدي في ذلك الوقت لم يعد يمتلك قوى المقاومة تلك التي تحمي الناس الأصحاء من سحر الكراهية. بدلَ أن أن يحارب إغراء الكراهية ذاك أصبح والدي فريسة له. العواقب الوخيمة سرعان ما تتابعت. سرعان ما ظهرت أول الأعراض المريبة، لتملأنا بالخوف و الحزن. تغير سلوك والدي. جنونه، نشوة حماسه، سرعان ما انطفأت. على قسماته و في إشاراته تبدّت علائم الضمير المعذّب. بدأ يجنح إلى تجنبنا، و الاختباء لمدة أيام بلا نهاية في الزوايا و الدواليب و أسفل ريش العيدر. بصرتُ به مراتٍ عديدة و هو يحدقُ بجديةٍ في يديه، متفحصاً اتساق الجلد و الأظافر، حيثُ بدأت تظهر بقع سوداء كحراشف الصراصير.


أثناء النهار كان بإمكانه أن يقاوم بما تبقى لديه من قوة، فانخرط يعارك وسواسه، و لكن أثناء الليل، كان الوسواس يستولي عليه بالكامل. بصرتُ به ذات مرة متأخراً أثناء الليل، على ضوء شمعة مسندة على الأرضية. كان يستلقي على الأرض عارياً، ملوّثاً ببقع سواداء طوطمية، من تحت جلده كانت تتبدى خطوط أظلاعه واضحة؛ كان يستلقي على وجهه، واقعا تحت قبضة وسواس الكراهية الذي جره إلى هاوية طرقه المعقدة. تحرّك بأعضاءه المتعددة، حركات معقدة طقوسية تبيّنت فيها و الفزع يمسك بقلبي تقليداً لذاك الزحف الاحتفالي الخاص بالصرصار.


منذ ذلك اليوم اقتنعنا أن أبي سيضيع و تخلينا عنه. أخذ شبهه بالصراصير يزداد يومياً و يغدو أوضح- لقد كان يتحول واحدا منهم.


اعتدنا ذلك. بدأنا لا نراه إلا لمماً، إذ أنه كان يختفي لأسابيع بلا نهاية في دروبه الصرصورية المعقدة. صرنا لا نميزه، لقد اندمج بالكامل مع تلك القبيلة السوداء البغيضة. من يستطيع أن يقول ما إذا كان لا يزال يعيش في شق في الجدار، ما إذا كان قد فرّ ذات ليلةٍ عبر الغرف منهمكاً بمسائله الصرصورية، ما إذا كان واحدا من تلك الحشرات الميتة التي تجدها آديلا كل صباح مستلقية على ظهورها مفرجة أرجلها، و التي سرعان ما كانت آديلا تكنسها في المجرفة لتحرقها لاحقاً بقرف؟


"و رغم ذلك،" قلتُ بارتباك، "أنا متأكد أنهُ طير الكوندور هذا."


نظرت والدتي إليّ من تحت رموشها.


"يا حبيبي، لا تقم بتعذيبي؛ لقد أخبرتك ألف مرة أن والدك غير متواجد، إنه منهمك بالسفر في أرجاء البلاد: لقد حصل على وظيفة تاجر جوّال. أنت تعلمُ أنه يرجع أحيانا إلى المنزل أثناء الليل، ليغادر مباشرةً قبل طلوع الفجر." 



هل تذكرون المقارنة التي عقدتها ما بين كافكا و شولز؟ ها هو جاكوب يتحول إلى صرصار كما تحول جريجو سامسا إلى صرصار. الفرق بين التحولين هو الفرق ما بين الكاتبين. تحول سامسا في بداية القصة، تحول جاكوب في نهايتها. تحول سامسا غير مفهوم و لا مبرر كالحياة تماماً، تحول جاكوب نتيجة طبيعية لهزيمة الشعر و الأحلام أمام واقع الحياة المادية و الشهوات. تحول سامسا يملؤك قلقاً، تحول جاكوب يملؤك حزناً. كم أتمنى لو أقع على بيوغرافيا وافية عن حياة برونو شولز و العلاقة الحقيقية التي كانت تربطه بأبيه. لقد جعل من والده رمزا أسطورياً لكل ما هو جميل و متعالٍ.


عالم برونو شولز السحري





هل سبق أن سمعت ببرونو شولز؟ أنا متأكد أنك لم تفعل. اطمئن، العيب لا يعود إليك، و إنما إلى المترجمين العرب، و الذين غالبا ما ينشغلون عن ترجمة الأجود بالرديء، بل إن مترجمي اللغة الإنجليزية يشاركونهم بعض هذا الذنب، و لولا نسخة إنجليزية يتيمة وجدتها بالصدفة في مكتبة بيع كتب مستعملة في سياتل لما دخلت عالم برونو شولز الساحر. لو سألتني عن أفضل كتاب القصة القصيرة قبل شهرين، لربما أجبت: بورخيس، بو، غوغول، كافكا، عدي الحربش.. إلخ.. أما الآن، فيستحيل أن أذكر القائمة دون أن أضع على رأسها هذا البولندي اليهودي.

كثير من النقاد يحب أن يعقد مقارنة بين شولز و كافكا، فالإثنان يهوديان، و الإثنان يكتبان بطريقة ساحرة غريبة ينعدم فيها الخط الفاصل بين الحقيقي و الفانتازي، و الإثنان مولعان بالكتابة عن أبيهما، الشخصية الأهم في حياتهما و أدبهما. لكن، شتان ما بين أدبي كافكا و شولز، فبينما يتعاطى كافكا مع الحاضر و المستقبل بكل ما يحملانه من قلقٍ و توجسٍ و عدم يقين، ينشغل شولز بالكتابة عن الماضي، و تحويل ذكرياته إلى ما يشبه الميثولوجيا الخاصة به. الوالد عند كافكا هو رمز السلطة و التجبر، أما بالنسبة لبرونو شولز، فإن والده جاكوب شخصية محبوبة يتعاطى معها بحنو، والده بالنسبة إليه شخصية دون كيخوتيه حالمة، تحاول أن تخوض حربا ضروساً ضد الحقيقة بماديتها و قساوتها و بشاعتها، شخصية درامية لأنها محكومة بالهزيمة و الانسحاق تحت ثقل المادة الضروس.

مع الأسف، لم يبق من تراث هذا الكاتب العظيم سوى مجموعتين قصصيتين، الأولى بعنوان: دكاكين القرفة the Cinnamon Shops، و الثانية بعنوان: مصحة تحت علامة الساعة الرملية Sanatorium under the sign of the hourglass. من أراد اقتناء المجموعتين يستطيع أن يبتاع طبعة دار بنجوين بعنوان: شوارع التماسيح و قصص أخرى The Streets of Crocodiles and Other Stories. قلتُ أنه لم يبق من تراث هذا الكاتب العظيم سوى هاتين المجموعتين لأن شولز قُتل بواسطة ضابط نازي من الجوستابو و هو في الخمسين من عمره، أما عمله الذي يُطلق عليه المسيح The Messiah فلقد اختفى، رغم أن بعض الرسائل تقترح أن شولز أرسل نسخة منه إلى صديقه الروائي الألماني الشهير توماس مان.

نهاية برونو شولز مأساوية بحقّ. كان شولز مدرساً في قريته، و كان يكسب لقمة عيشه من كتاباته و رسوماته. لم يسبق له أن خرج من قريته من قبل. اجتاح النازيون بولندا، و قتلوا أغلب اليهود، و لم يشفع لشولز سوى موهبته البارزة في الرسم. سمع أحد ضباط الجوستابو أن شولز رسام بارز، فاحتفظ به، و صار يحميه، و أمره أن يزيّن حائط الغرفة التي ينام فيها طفله الرضيع، و هكذا بدأ شولز يرسم و يزين الحائط بالأقزام و الجنيات و الساحرات و حوريات البحر. كان يدرك أن نهايته قريبة، و لذا أخذ يخطط للهرب قبل إنهاء الحائط، حتى إذا جاءت ليلة هربه، إذا بضابط جوستابو آخر يعترض طريقه. كان ذلك الضابط مغضباً من الضابط الذي يحمي برونو، ذلك أن الأخير قتل اليهودي الخاص به، و لذا كي ينتقم الضابط، أطلق الرصاص على برونو شولز، و أرداه قتيلاً.

حديثاً، و مع تصاعد الاهتمام ببرونو شولز، قام أحد المخرجين الأمريكين بتسجيل فيلم وثائقي يحاول من خلاله توثيق رحلته المعنية بالبحث عن الحائط الذي زينته رسوم شولز قبل مقتله. لم أر الفيلم، و لكن و حسب المقدمة المترجمة لشولز في كتابي، استطاع المخرج العثور على الحائط، و كما لو أن الأمر أشبه بالسحر، قام المخرج تحت تسيجل الكاميرا بإزاحة الغبار عن حائط قديم، لتظهر مئات الرسومات السحرية التي تنتمي إلى ريشة شولز. حصل نزاع حام على هذا الجدار، إذ تنازعت ملكيته كل من بولندا و اليهود و المخرج الأمريكي الذي اكتشفه. في الأخير، و كما هو متوقع، انتصر اليهود، لينتقل الجدار بالكامل إلى متحف إسرائيل!

مالذي يميز عالم شولز القصصي؟ شفافيته، و تماهي الحقيقي مع الخيالي فيه. لم أقرأ لشولز سوى مجموعته الأولى دكاكين القرفة، و أتطلع بشغف إلى قراءة مجموعته الثانية. المهمة التي كان شولز معنيا بها هي تحويل ذكرياته الخاصة بطفولته و عائلته إلى ميثولوجيا شخصية. هناك والده، جاكوب، الرجل الهزيل الحالم، و الذي اعتزل الحياة العملية، و صار منشغلا بتربية الطيور. هناك آديلا، الخادمة الشابة، الرمز الشهواني، و رمز السلطة النسائي، و التي كانت بقوةٍ ساحقة تخضع كل من بالمنزل و خصوصا جاكوب. في مشهد لا أستطيع أن أنساه، ينهمك جاكوب -والد الراوي- بالحديث مع شابتين يخطن الدمى، يخبرهما عن نظريته بخصوص الدمى و المنحوتات و التماثيل، و كيف أن هذه الأشكال الجامدة من المادة الخام تُحبس في عذابات هذه التعابير التي يختارونها لها. ينهمك جاكوب في شرح نظريته الغريبة، إلى أن تدخل الخادمة آديلا، ليتوقف جاكوب كطفلٍ ضُبط و هو يعمل شيئا غير مسموح، هنا تمدّ آديلا قدمها الصغيرة المكسوة بجرابها الشفيف، ليجثو جاكوب على ركبتيه مقبلاً قدمها، ثم ينصرف بانهزام. لم يصرّح شولز عن ما يرمز إليه والده و ما ترمز إليه آديلا، و لكن هذه المعركة المحتدمة بين الإثنين، هذه الهزائم المتعاقبة الحزينة لجاكوب، هذه الأشياء، هي ما تضيف السحر و الحزن إلى كتابة شولز.

ليس هذا و حسب، و إنما أيضا المكان و الزمان. عالم شولز غير تقليدي، و غير محصور. يخبرنا شولز أن والده قد يضيع في غرف الشقة العديدة أياما و أسابيع إلى أن يظهر أخيراً. شوارع المدينة تتمدد وسط الليل و تنبت دكاكين و أماكن كانت غير موجودة أثناء النهار. الرجل يرجع إلى ما يخاله بيته ليجد نفسه يدخل بيتاً مطابقا في الهيئة و لكنه يختلف عن بيته. حتى الزمن غير تقليدي، إذ أن الكتاب مقسم إلى ثلاثة عشر فصلا، ما يفترض أن يكون عدد شهور السنة، إذ أن السنة قد تتمهل أحيانا فيطول الشتاء أو الصيف، و قد ينمو أحيانا شهر ثالث عشر، شهر خديج مشوه، و كأنه أصبع ضامرة زائدة تُضاف إلى أصابع اليد الخمسة.

لو تحدثت عن افتتاني بشولز إلى ما لانهاية لن أوفيه حقه، و لذا، كي أنقل إلى القارئ فتنة نثر شولز و غرابة عوالمه، قمت بترجمة هذه القصة القصيرة من مجموعة دكاكين القرفة و اخترتها كعينة لأدبه. الترجمة سريعة و رديئة، و لكنها تظهر ما أريدُ أن تظهره من خصائص شولز النثرية الفاتنة: عالمه السحري، تداخل الحقيقي مع الفانتازي، معركة جاكوب مع آديلا، الشهوانية المتختبئة بين السطور، التعامل الشفيف مع الذكريات. اقرءوا القطعة كاملة، و ستدركون ما أعني.








الطيور


ها قد أتت أيام الشتاء الصفراء، مثقلة بالملل. الأرض المصطبغة بحمرة الصدأ غطتها قماشة الثلج المهترئة المثقبة. لم تكن هناك كمية كافية منه لتغطي كل الأسطح، و هكذا، ظهرت بعض تلك السطوح سوداء و بنية، مسقوفة بالألواح أو القش، أقواساً ممتدة من العليّات المغطاة بالرماد، كل واحدة تماثل رئةً سوداء متفحمة تعجُ بها الرياح الشتوية. مع كل فجر تظهر أكوام من المداخن الجديدة، انبثقت في ساعات الظلمة، حيثُ تنفخ عبرها الرياح الليلية، و كأنها الأنابيب السوداء لأورغان الشيطان. ضربات منظف المداخن لم تكن كافيةً كي تتخلص من الغربان التي تغطي كل مساء أغصان الأشجار المتحلقة حول الكنائس، وكأن الغربان أوراق سوداء حية، سرعان ما ستطير مرفرفة، لتعود مرة أخرى، كل واحد متمسكا بمكانه السابق على الغصن، لتبتعد أخيرا عند الفجر، كموجات رماد، كقطع وساخة، متموجة فانتازية، مسودّة بنعيقها غير المنقطع خيوط الضوء الصفراء العفنة. بدأت الأيام تتصلب بفعل البرد و الملل و كأنها أرغفة خبز من السنة الماضية. الواحد بدأ يقطعهنّ بسكاكين مفلطحة، بدون شهية، بلا مبالاة كسولة.

انقطع والدي عن الخروج منذ فترة. صار ينشغل بحشو المواقد و المداخن، و يستغرق بتأمل ذلك الكنه المخادع للنار. انهمك كذلك بتجربة الطعم المالح المعدني ذي الرائحة النفاذة التي تشبه رائحة السلامندر الشتوي الذي يلعق الرماد من حنجرة المدفأة. أخذ يتطوع بحماس لكل أنواع الأعمال الخاصة بترميم الأجزاء العلوية من الغرف. في ساعات النهار، يستطيع الواحد أن يراه مقرفصا فوق قمة سلم، يشتغل في إصلاح شيء معلق بالسقف، في عرى النوافذ الطويلة، في الأوزان و السلاسل الخاصة بالقناديل المعلقة. متبعاً عادات صابغي البيوت، كان يستعمل سلماً يتكون من درجتين إثنتين، من هناك، كان يحسُ بسعادة غامرة و هو يطل من أعلى، قريباً من السماء و الأغصان و الطيور المطلية على سقف الغرفة. بدأ يبتعد أكثر و أكثر عن المشاغل اليومية العملية. عندما تحاول أمي القلقة و غير السعيدة على حالته أن تصرف انتباهه تجاه الشغل و المستحقات الشهرية، كان يستمع إليها بعقل غائب، و القلق يظهر على محياه الساهم. أحياناً، كان يوقفها بإشارة من يده، ليعدو إلى زاوية الغرفة، حيثُ يلصق أذنه إلى أحد الشقوق في الأرضية، ليرفع السبابة في كلتا يديه، مؤكداً خطورة البحث الذي يقوم به، و بعدها يستغرق في الإنصات بانتباه. في ذلك الوقت، لم نكن نفهم العلة الحزينة التي انبثقت منها كل هذه التطرفات الغريبة، ذاك المركب البغيض الذي كان ينمو رويداً داخله.

أمي لم تكن تملك أي تأثير عليه، و لكنه كان يولي الكثير من الاحترام تجاه الخادمة آديلا. كان تنظيفها لغرفته طقسا مهما عظيما بالنسبة إليه، كان حريصاً دائماً على التواجد أثناءه، ليراقب جميع تحركات آديلا بمزيج من القلق و الإثارة المستمتعة. كان يولي جميع أعمالها معانٍ رمزية ذات دلالة عميقة. عندما تبدأ الفتاة –بحركات فتيّة قوية- بمجاذبة المكنسة الطويلة و تحريكها فوق الأرضية، والدي كان بالكاد يتنفس. الدموع تبدأ بالتساقط من عينيه، ضحكات مخنوقة تشوه وجهه، أما جسده فلقد كان يهتز بالكامل مأخوذاً بتقلصات النشوة. لقد كان ضعيفاً و حساسا إذا ما تعلق الأمر بالدغدغة إلى درجة الجنون. كان يكفي لآديلا أن تحرك أطراف أصابعها أمامه مصطنعة الدغدغة، ليركض كالمذعور عبر جميع أبواب الغرفة، صافقا وراءه الباب تلو الآخر، إلى أن يسقط أخيراً فوق سرير أبعد غرفة، مهتزا و متشجنا من الضحك، متخيلاً الدغدغة التي لم تكن محتملة من قبله. من أجل ذلك، كان سلطان آديلا على والدي بغير حدود.

في تلك الفترة، بدأنا نلاحظ للمرة الأولى شغف والدي العجيب بالحيوانات. لقد كان مزيجاً من عاطفتي الصياد و الفنان داخله، و لربما كان كذلك تعاطفا بيولوجيا ذا صفة أعمق من قبل مخلوق ما تجاه أشكال أخرى من الحياة، أشكال يحسُ بالانتماء إليها إلا أنها مختلفة، نوعا من التجريب في المناطق الغير المكتشفة من الوجود. لم تتخذ الأمور ما اتخذته من طبيعة معقدة ملتوية آثمة إلا في المراحل الأخيرة، و هو موضوع من الأفضل أن يبقى مطمورا بعيدا عن ضوء النهار.

لقد بدأ كل الأمر بمشروع حضّانة بيض الطيور.
بمزيج باهض من الجهد و المال، قام والدي باستصدار بيض طيور من هامبورج أو هولندا أو بعض الحدائق الحيوانية من أفريقيا، قام بذلك و وضع البيض في حضانة دجاجات هائلة الحجم من بلجيكا. لقد كانت عملية مثيرة استأثرت باهتمامي أنا أيضاً- تفقيس هذه الكتاكيت و الأجنة، و التي كانت تشوهات حقيقية و مريعة من كل الأشكال و الألوان. لقد كان من الصعب أن تحزر من خلال هذه الوحوش ذات المناقير الخلابة التي كانت تفتحها بالكامل بمجرد ولادتها، مزقزقة بجشعٍ لتظهر مؤخرات حناجرها، هذه السحالي ذات الأجسام العارية الضعيفة المحدودبة، أقول أنه كان من المستحيل أن تحزر مستقبلها، أيها سيغدو الطاووس و أيها الدرّاج و أيها القنبرة و أيها الكندور. متروكةً وسط الظلام في هذه السلال المبطنة بالقطن، أخذت عوائل التنين هذه تتمايل بأعناقها الهزيلة محشرجةً دون صوت عبر حناجرها الغبية، ليدخل والدي متمايلا بين الأدارج، لابسا مئزرته الخضراء، و كأنه بستاني يعمل في مستدفأ صبّار، ليصنع من اللاشيء هذه الزقازيق العمياء، هذه الفقاعات المتفجرة حياةً، هذه البطون العنينة التي لا تستقبل من الخارج إلا ما يأتي على شكل أكل، هذه التبرعمات على سطح الحياة، تتسلق بعمىً تجاه الضوء. بعد بضعة أسابيع، عندما تفتحت هذه البراعم العمياء من المادة، امتلأت الغرف بالضجة الساطعة و الزقزقة المتصاعدة لهذا الفصيل الجديد من الساكنين. جثمت الطيور فوق مخمل الستائر، فوق دواليب الملابس، بدأت تعشعش فوق كومة الأغصان المعدنية و اللفائف الزجاجية للمصابيح المعلقة.

كلما انكبّ والدي على مجلداته الأورنيثيولوجية الخاصة بعلوم الطير، كلما أخذ يتطلع و يدرس صحائفها الملونة، كانت هذه الخيالات الريشية تبدو و كما لو أنها تخرج من الصفحات لتملأ الغرف بالألوان، ببقع من القرمز و أشرطة الياقوت و الزنجار و الفضة. في وقت الإطعام، كانت تصنع سريراً مبهرجاً متموجاً على الأرض، سجادة حية من شأنها عندما يدهمها زائر دخيل أن تتمزق و تتفرق لتتحول إلى مئات القطع المحلقة في الهواء لتستقر أخيراً عاليا تحت السقف. أتذكرُ بصفة خاصة طائر كوندور ينتمي إلى فصيلة العقبان، طائراً ضخماً بعنق جرداء، وجهه مجعّد و متدلي. لقد كان زاهداً ناحل الجسم، شيئا يماثل العابد البوذي، ممتلئاً بكرامة عصية متمنعة، متقيداً بالطقوس القاسية الخاصة بأبناء جلدته. كلما جلس قبالة والدي، ساكناً، على هيئة التماثيل الفرعونية، و عيناه مغطيتان بالماء الأبيض، مما يحدو به أن يحركهما جانبا ليغلق نفسه بالكامل على تلك الهيئة المتأملة الوحيدة- كلما فعل ذلك، خيّل لي أنه شقيق أكبر لوالدي. جسمه و عضلاته تبدوان من نفس المادة، لديه نفس الجلد القاسي المجعد، نفس الوجه العظمي الجاف، نفس المحجرين المتصلبين العميقين. لم أكن أستطيع مقاومة ذاك الانطباع –كلما حدقت به و هو نائم- أنني موجود في حضرة مومياء- مومياء مجففة منكمشة لوالدي. أنا أؤمن أن والدتي أيضا لاحظت هذا الشبيه العجيب، رغم أننا لم نناقش الموضوع ألبتة. إنه لمن المهم ملاحظة أن الكوندور كان يستعمل نفس المبولة الخاصة بوالدي.

رغم تفقيس المزيد و المزيد من الفصائل، لم يحس والدي بالاقتناع، مما حدا به أن يرتب زواجاتٍ بين الطيور المختلفة في العليّة، بل بدأ يرسل الخاطبات، و قام بتقييد الطيور المتلهفة الجذابة إلى الشقوق و التجاويف تحت السقف، و سرعان ما غدا سقف منزلنا –ذاك السطح المزيّق المسقوف- سرعان ما غدا فندقاً للطيور، سفينة نوحٍ قصدتها جميع أنواع المخلوقات الريشية من بعيد. حتى بعد زمن طويل من القاصمة التي حلت بجنة الطيور تلك، استمر هذا التقليد سائراً في العالم الطيري، و كلما حلت الهجرة الربيعية، إذا بسقفنا يُحاصر بواسطة فصائل كاملة من طيور الكركي و البجع و الطواويس و غيرها من الطيور. و لكن، و بعد فترة قصيرة من البريق، إذا بالمشروع بكامله يأخذ منعطفاً حزيناً.

سرعان ما أصبح من اللازم أن ينتقل والدي إلى غرفتين أعلى المنزل كانتا تُستخدمان في خزن الأغراض. كان بإمكاننا أن نسمع وقت الفجر الضجة المتداخلة من أصوات الطيور. الجدران الخشبية لغرف العليّة –بمساعدةِ رنين المساحة الفضاء تحت القبة- صوتت بالهدير و الرفيف و النعيق و الغرغرة و بصيحات الجماع المنتشية. لأسابيع عديدة، اختفى والدي و لم يعد بالإمكان العثور عليه. كان نادراً ما ينزل إلى الشقة، و عندما يفعل، كنا نلاحظ أنه قد انكمش، أنه قد أصبح أصغر و أنحف. أحيانا عندما ينسى نفسه، يقوم بالنهوض من كرسيه مقابل الطاولة، ليبدأ بالرفرفة و تحريك ذراعيه و كما لو أنهما جناحين، بينما يصدر صوت نداءٍ طيري، لتغطي عينيه سحابة من الماء. بعدها، و كما لو أنه انحرج، يقوم بمشاركتنا الضحك و تحويل الحادثة بأكملها إلى شيء يشبه النكتة.

في أحد الأيام، أثناء أعمال التنظيف الربيعية، ظهرت آديلا فجأة في مملكة والدي الطيرية. توقفت عند المدخل، لوحت بيديها في وجه الرائحة النتنة التي كانت تملأ الغرفة، أكوام البراز المتناثر على الأرض، الكراسي و الطاولات. بدون أي تردد، قامت بفتح الشرفة على مصراعيها، و بمساعدة مكنستها الطويلة، تمكنت من بعث كامل الكتلة الطيرية إلى الحياة. سحابة وحشية من الريش و الأجنحة تصاعدت مستنجدة، أما آديلا –و كما لو أنها إلهة غضب رومانية تمسك بعصاها العاجية- فلقد رقصت رقصة الدمار. حاول والدي –و هو يرفرف بهلع بذراعيه- أن يرتفع بنفسه عبر الهواء كي يرافق قطعيه الريشي. رويدا، رويداً، بدأت سحابة الأجنحة بالانحلال حتى لم يبق في النهاية سوى آديلا في ساحة المعركة، و هي تلهث مقطوعة النفس، و كذلك والدي، و الذي الآن –و بعد أن امتقع وجهه بنظرة قلق ذليلة- صار بإمكانه أن يتقبل الهزيمة الكاملة.

بعد لحظات، نزل والدي للأسفل- رجلاً محطماً، ملكا مخلوعا منفيّاً خسر عرشه و مملكتَه.


ترجمة: عدي الحربش
May 15 / 2011

الجمعة، 5 أبريل 2013

روبرت و إليزابيث براونينج (*Dared and Done)




فكرتُ –مرةً- كيف أنّ ثيوقراطيس غنّى
عن السنوات الجميلة، السنوات المُتمناةِ العزيزة،
و التي تظهرُ -كل واحدةً منها- حاملةً فوقّ كفٍ كريمة
هديةً للفانين؛ عجائزهم و أطفالهم،
و بينما كنتُ أقلّبُ تلك الفكرةَ عبرَ لسانهِ الأثريّ،
شاهدتُ من وراءِ دموعي رؤياً تدريجية:
السنواتِ العزيزةَ الحزينة، سنواتي الكئيبة،
سنينَ حياتي، و التي كانت تلقي –الواحدة تلو الأخرى-
بظِلالِها فوقي. مباشرةً شعرتُ به،
وسط غمرةِ نشيجي، كيفَ أنّ شكلاً باطنياً تسللَ
خلفي، ليسحبني إلى الوراءِ جاذباً شعري
صوتهُ رددَ في سيادةٍ، بينما كنتُ أقاوم:
"احزري الآن، من يمسكُ بكِ!"—"الموت،" أنا قلت،
ها هنا، دوّى الصوتُ الفضي: "ليسَ الموت، بل الحبّ."

(إليزابيث باريت براونينج)

المقطوعة المُترجمة بالأعلى هي أولى السوناتات التي كتبتها إليزابيث باريت بعد أن تزوجت برفيقها الشاعر روبرت براونينج و فرّت معه إلى إيطاليا. بوّدي لو أن الجميع قرأها بأصلها الإنجليزي Sonnets from the Portuguese و الذي أخلت به الترجمة كثيراً. لا بدّ -حينما تقرأ- أن تُصاب بالدهشة بسبب الصورة التي افتتحت إليزابيث بها سوناتاتها الشهيرة: امرأة من العصر الفكتوري تجلس على الكرسي، تقرأ لثيوقراطيس بلسانه الأنتيكيّ بعض القصائد. ما تقرأه يجعلها تتأملُ في سنين حياتها الكئيبة السوداء. تحسُ باليأس، بالغصة، تحسُ أنها تكاد أن تسقط، لولا أنّ يداً بالغة القساوة، بالغة القوة، أمسكت بشعرها لتجذبها دون رحمة، و حينما سألها في تحدٍ من أنا؟ أجابت: الموت! فإذا بصوته البارد يدوّي: ليس الموت، و إنما الحب. هل سبق لكم أن قرأتم تصويراً مثل هذا للحب؟ لطالما قُرن الحب بالرقة و الحنان و التعهّد، ليس الصرامة و التقريرية الموجودة ها هنا. و لكن من يقرأ قصة حياة إليزابيث و علاقتها بزوجها روبرت سوف يفهم كل شيء.

نشأت إليزابيث في بيتٍ أبٍ صارم، غريب الطباع، شديد الأنانية، كان قد أثرى بزراعة قصب السكر في مستعمرة جامايكا. تلقت تعليما عاليا في طفولتها، فقرأت لميلتون و شكسبير، و أجادت اللاتينية و الإغريقية. أمضت طفولتها في الريف، حيث ابتاع والدها قطعة أرضٍ واسعة، و خصص في بيته غرفةً كبيرة لإليزابيث، بزجاجٍ ملون، و حديقة كانت إليزابيث تتعهدُ فيها زهورها البيضاء. ليس للأم موقع في حياة إليزابيث، إذ يبدو أنها ماتت في سنٍ مبكرة. الأبُ كان موجوداً، كان محباً، و لكن هذا الوجود و هذا الحب سوف يتخذان صورة مرضية مع الأيام. 

في سن الخامسة عشرة، سقطت إليزابيث من فوق فرسها ليُصاب عمودها الفقري، كانت تلك نقطة تحوّلٍ في حياتها التعيسة. لم ينتج من تلك الإصابة شللٌ أو عاهة، و لكن أبوها كان يُصرّ عليها بحدبه الأبوي على ملازمة الفراش، أن لا تبرحَ مكانها، و لا حتى تنتقل من غرفةٍ إلى غرفة. هذا الإصرار ازداد حدة بعد انتقالهم إلى بيتٍ جديدٍ مظلم في شارع ويمبول. استطاع أبوها بطريقةٍ ما أن يقنعها أنها مريضة، أنه غير مرجو برؤها، أن مصيرها الموت و فقط، و هكذا وقعت إليزابيث ضحية ما أسماه الأديب تشيسترتون -و أنا آخذ منه الكثير من تفاصيل هذا القصة- أكثر الأجواء تسميماً و تحطيما الروح: المناخ الطبي. الأدهى من هذا، أن إدوارد باريت كان يمنع بناته من الزواج، و يهددهن أنهُ سيتبرأ منهنّ و ينزع حقهنّ بالتركة إن هنّ تزوجنّ. بسبب كل هذا، لم يعد أمام إليزابيث إلا أن تلجأ إلى الأدب كحياةٍ ثانية تهرب إليها. 

نشرت إليزابيث مجموعتها الشعرية الأولى في سن العشرين، و سرعان ما اشتهرت، لتصبح أشهر شاعرة في بريطانيا و إنجلترا الجديدة، إلى درجة أنّ هناك من سيأتي في المستقبل ليقترحها كوريثة عرش الشعر الإنجليزي Poet Laureate بعد موت وردزورث. مجموعتها قصائد Poems و التي نُشرت في عام 1844 حققت نجاحا باهراً، حتى إدغار آلان بو صاحب اللسان السليط و النقد اللاذع لم يجد أمامه إلا أن ينثني عليها. هذا النجاح كان من شأنه أن يقلب حياتها رأسا على عقب، إذ أنهُ جلبَ إليها انتباه شاعرٍ شاب يُدعى: روبرت براونينج. كان روبرت يصغر إليزابيث بثمان سنوات، و كان نجمه في صعود، إلا أنهُ كان أقل شهرة من إليزابيث باريت. أرسل روبرت براونينج إلى إليزابيث رسالة يعبر فيها عن إعجابه. يقول في الرسالة:

"منذُ ذلك اليوم –قبل أسبوع- عندما قرأت قصائدك لأول مرة –أضحكُ الآن عندما أتذكر ما حصل- و أنا أقلبُ في عقلي المرة تلو الأخرى كيف يمكن أن أعبّر لكِ عن التأثير الذي صنعته بي، إذ أني فكرتُ –و أنا لا أزالُ أخامر أحاسيس النشوة الأولى- أنهُ يجدرُ بي هذه المرة فقط أن أخرج من عادةِ الاستمتاع السلبي –هذا إذا ما استمتعتُ حقيقةً- و أن أبررَ و أقفَ على سببِ إعجابي، ربما كما يجدرُ بزميل حرفة أن يفعل، أن أحاول و أجدَ خطأ، نقداً يمكنُ أن يفيدكِ و أن أفتخرَ به، و لكن دون طائل، لم يخرج مني شيء—لهذه الدرجة قصائدك تغلغلت داخلي، و لهذه الدرجة هو أصبحَ جزءاً مني، شعرُكِ الجميل، هذا الكائن الحيّ، لا توجد زهرة فيه لم تتخذ لها جذرا في روحي و تنمو—آهٍ يالعِظمِ الفرق ما بين هذه الزهور و تلكَ التي تُقطع و تُجفف ثم تُكبس لتصبح مسطحةً، و تُتجرُ و تقدّر، و توضع وسط كتابٍ مع عبارةٍ في الأعلى أو الأسفل، و يُغلقُ عليها إلى الأبد، و تُوضع بعيداً... ثمّ يسمون الكتاب "فلورا" بعد ذلك!"

عندما قرأت إليزابيث الرسالة أصيبت بنشوةٍ بالغة. هناك رسالة كتبتها إلى إحدى صديقاتها، تصفُ فيها تأثير رسالة روبرت براونينج فيها، و كيف أنها "رمتها في فوار من النشوة. ها هنا بدأت صداقة طويلة ما بين روبرت براونينج و إليزابيث باريت من خلال الرسائل، دون أن يتمكن روبرت أن يجتمع بها و لو لمرةٍ واحدة. عندما اقترح روبرت أن يزور بيتهم و يجلس مع عائلتها، حاولت إليزابيث أن تختلق عراقيل مختلفة، متعللة تارة بالمرض و تارة بالفصل غير المناسب من السنة و بالريح الشرقية، مما حدا بروبرت أن يجيبها: "لو تحققتْ أمنية قلبي، سوف تضحكين من الريح الشرقية كما أضحك." تحت وطأة هذا الإلحاح، بدأت إليزابيث بتقديم أعذارها الحقيقية، و الحديث عن ثقتها الهزيلة بنفسها: "ليس هناك شيء يستحق أن يُرى بي، و لا حتى أن يُسمع—أنا لم أتعلم أبدا كيف أتحدث كما تفعلون في لندن، لو أنّ الشِعر يساوي شيئا ما، فإنه كل الزهرة التي أملك. لقد عشتُ حياتي و كنتُ سعيدة أكثر شيء من خلاله. هو كل الألوان التي أملك، و ما عداه ليس سوى جذر، صالح فقط للتربة و الظلمة." ها هنا، جاءت إجابة روبرت براونينج مباشرة و حاسمة، كشخصيته تماماً: "سوف أدقُ باب داركم يوم الثلاثاء، الساعة الثانية."

في اليوم العشرين من مايو، 1845 التقى روبرت بإليزابيث، و وقع في حبها مباشرة. عندما عرض عليها الزواج، أجابته في رسالة: "سوف أخبركَ بما دار بيني و بين أخواتي ذات مرة، هو خير ما يُعبر عن حالي و إن كان مزحاً، لقد قالت أختي: لو أن أميرا من الإلدورادو جاء بنسبٍ عظيم ينتهى بالقمر من جهة، و في يده تذكرة تزكية على أخلاقه من أقرب كنيسة من جهة ثانية، لماذا! حتى حينها –قالت أختي آرابيل- لن ينفع كل ذلك مع أبي. و لقد كانت محقة. لقد كنا متفقين جميعا أنها كانت محقة."

قوبل طلب روبرت الزواج بالرفض من قبل الأب، و حتى الأطباء كانوا يرددون في أذن الأب و ابنته العليلة أن الحركة و التنقل و الإثارة سوف تتلف إليزابيث، فما بالك بالزواج! كان روبرت براونينج هو الوحيد الذي يرى في حالة إليزابيث شيئا مزيفا عفنا، و كان الوحيد الذي يردد: "أنتِ أجدر بأكثر من هذا، لقد قلتي هكذا و عملتي هكذا." اسمترت الأمور على هذه الحالة حتى تدهورت صحة إليزابيث تدريجيا، و عندها، أخبر الأطباء السيد باريت أنه من المحتم عليه أن يأخذ ابنته العليلة للاستجمام إلى إيطاليا. ها هنا رفض الأب، و كاد المُحطاون به أن يُجنوا بسبب هذا الإصرار و الرفض. عرضت عليه السيدة جيمسون –صديقة العائلة- أن تأخذ ابنته إلى إيطاليا معها و على نفقتها دون فائدة. صديق العائلة، كينيون، حاول معه المرة تلو الأخرى دون جدوى، ليهرع إلى بيت آرابيل باريت –أخت إليزابيث- مشتكيا سلوك أبيها غير المبرر. اشتهرت المسألة، و أصبح المجتمع اللندني يتهامسون بها، و هنا لم يجد روبرت براونينج أمامه إلا حلاً واحدا عرضه على إليزابيث: أن يتزوجان سراً، و من ثم يفران سوياً إلى إيطاليا.

كان الاقتراح من الجرأة و من الجنون بحيثُ ألقى بإليزابيث في حيرةٍ من أمرها. مثل هذا العمل سوف يلقي بسمعتهما إلى الحضيض، و لكن البديل هو أن تبقى حبيسة غرفتها و حبيسة المناخ الطبي القاتل الذي كان أبوه يفرضه عليها. ها هنا، و بعد أن اقتربت المهلة التي أعطاها روبرت للبت بقرارها بخصوص الموضوع، قامت إليزابيث بعمل شيءٍ يكاد ينمتي للعصور القديمة في تلقائيته و رمزيته (ها هنا أستعير من تشيسترتون من جديد): في اليوم الذي كان من الملزّم عليها أن تتخذ قرارا بشأن اقتراح براونينج، دعت أختها كي تأتي إليها، و أمام ذهول و رعب الأخيرة استأذنتها أن تستعير عربتها. استقلت إليزابيث العربة باتجاه حديقة الريجينت بارك لأول مرة، هناك، ترجّلت، و مشت فوق العشب، و أسندت ظهرها فوق شجرة لبعض الوقت، متطلعة حولها في الأوراق و السماء. بعد ذلك، دخلت إلى العربة ثانية، توجهت إلى البيت، و أرسلت لروبرت بموافقتهاعلى الخطة. يعلقُ تشيسترون على الحادثة فيقول: هذه الحادثة كانت أفضل قصيدةٍ صنعتها يدُ إليزابيث باريت.

و هكذا تسللت إليزابيث في أحد الأيام إلى كنيسة مجاورة في شارع ويمبول، و تزوجت بروبرت براونينج تحت مباركة رجل الدين. لم يشأ روبرت أن يسافر بها مباشرة إلى إيطاليا، إذ أن أعصابها كانت أضعف من أن تستحمل مفاجأة الزواج و مفاجأة السفر معاً. بعد انقضاء بعض الوقت، و عندما حان الموعد، سافر الإثنان قاطعين القنال، متجهين إلى إيطاليا. هزّت الفضيحة المجتمع البريطاني، و عمد أبو إليزابيث إلى التبرئ منها و نزع حقها بالتركة مباشرة. و لكن الزوجان الجديدان لم يكونا ليأبها لما يحدث هناك. لقد أدارا ظهريهما للحياة القديمة، و استقبلا بذراعيهما الحياة الجديدة. في إيطاليا، بدأ روبرت بأخذ إليزابيث في رحلاتٍ طويلة فوق الجبال، و تحت دهشة الجميع، زال مرض إليزابيث تماماً، بل اتضح أنها لم تكن مريضة أصلا و إنما تعيش في وهم المرض، و هكذا أثبت روبرت أنه كان محقا و أن الأطباء كانوا مخطئين. حملت إليزابيث بروانينج من روبرت و أنجبت ولدا مات في صغره. عاشت حياة بالغة السعادة، و ماتت بين ذراعيّ زوجها. في يوم وفاتها، أقفلت محلات القرية التي يقطنانها و نُشر السواد حِداداً على الشاعرة الشهيرة.

أرجع إلى مشهد إليزابيث و هي تقف مسندة ظهرها على أشجار الريجينت بارك فأصاب بالدهشة. لم تكن تفكرُ: هل أختار أبي أم عشيقي؟ لقد كان القرار أخطر من هذا و أعقد. كانت تحتاج إلى أن تخرج من سجن غرفتها كي يتحول السؤال إلى محور آخر تماماً: هل أختارُ الغرفة الكئيبة و الكرسي الجامد و النافذة المُغلقة، أم أختارُ الأعشاب الخضراء و الطيور المحلقة و النسمات الهيّنة العطرة؟ لقد كانت تلك النزهة السريعة في الريجنت بارك كفيلةً كي تساعدها على اتخاذ القرار. أرجعُ أيضاً إلى السوناتة التي وضعتُها في الأعلى فأفهمها. الصوتُ الفضيّ التقريري الذي فاجأها في وحدتها، اليدُ الرجولية القاسية التي جذبتها من شعرها و انتشلتها من سجنها: لقد كان صوت روبرت، لقد كانت يد روبرت.

* العبارة التي وضعتها تحت العنوان: أُجترئ و فُعل dared and done مستعارة من بيوغرافيا بنفس العنوان عن قصة حب روبرت و إليزابيث بروانينج. لم أشترِ أو أقرأ الكتاب، إلا أن تلك العبارة و صورة الشاعرين على غلافه كانت الشرارة الأولى التي أذكت فيني الاهتمام بقصة هذين الشاعرين. أغلب المعلومات التي نقلتها هنا مقتبسة من كتاب الأديب البريطاني ج. ك. تشيسترتون عن حياة و شعر روبرت براونينج. هناك فيلم أمريكي قديم يتناول نفس القصة بعنوان: The Barretts of Wimpole Street لم أشاهده رغم أن هناك نسخة تالفة منه في يوتيوب.