الأحد، 29 أبريل 2012

قصيدة الغراب لبو




مرةً، ذاتَ منتصفِ ليلةٍ مُرعبة، بينما أتأملُ مُتعباً مُرهقاً،
أكوامَ مُجلداتٍ جذابةٍ مُدهشةٍ من سحرٍ ماضٍ منسي،
أثناءَ انشغالي بالاهتزازِ نَوماً، فجأةً سمعتُ على البابِ قرعاً،
و كما لو أحدُهم يطرقُ طرقاً، طرقاً فوقَ بابِ الحُجرة،
"ها هُناكَ زائرٌ،" تمتمتُ و نفسي، "يقرعُ فوقَ بابِ الحُجرة –
هذا ما هناك، و لا شئَ غيرَه."

آهٍ، بوضوحٍ أستطيعُ أن أذكر، أنهُ قد كانَ ديسمبرَ المُظلم
و أنّ كلَ جمرةٍ مفصولةٍ ترحل، تاركةً شبحاً فوقَ الحُجرة
بتلهفٍ انتظرتُ وصولَ الغد؛ – بعبثٍ تمنيتُ لو قد وجدتْ
في كومةِ كُتبي عزاءً للفقد – الفقدَ الذي سبّبهُ رحيلِ "لينور" –
لأجلِها البتولِ النادرةِ المتألّقةِ تلكَ التي أسمتها الملائكةُ "لينور" –
لا اسمَ بعدَ الآن، ها هنا و لا نور.

و أنَّ كلَ ستارةٍ أرجوانيةٍ غريبة، بحفيفها الحريري و أصواتِها المُريبة
أهاجتني – ملأتني بمخاوفَ فظيعةٍ و إحساس لم يسبقْ من قبلُ أن جربته
و لذا الآنَ، كي أُسكِتَ نبضَ قلبي، أخذتُ أرددُ ما بيني و بينَ نفسي:
"ها هنالكَ زائرٌ يفكرُ بشكلٍ جدّي، بالدخولِ عبرَ بابِ الحُجرة –
زائرٌ متأخرٌ يفكرُ بشكلٍ جدّي، بالدخولِ عبرَ بابِ الحُجرة؛ –
هذا ما هناك، و لا شئَ غيرَه."

حالاً تشجعتْ روحي أكثر؛ لم تترددْ بعدَها أطول،
"سيدي،"  قلتُ، "أو سيدتي، هلاّ استمحتما سائلاً عذرَه؟
أنا في الحقيقةِ كنتُ غافياً، و أنتَ بتلطفٍ أتيتَ طارقاً،
بمنتهى الهدوءِ أتيتَ قارعاً، قارعاً فوقَ بابِ الحُجرة،
لدرجةِ أني بالكادِ سمعتُك."- و ها هنا دفعتُ ببابِ الحُجرة؛ -
فإذا بالظلام، و لا شئَ غيره.

حدّقتُ وسطَ الظلامِ عميقاً، ارتجفتُ فَرَقاً، وقفتُ طويلاً
مُتشككاً، حالماً حُلماً لم يسبقْ لفانٍ أن تجرأَ أن يحلمَ مِثلَه.
لكنّ الصمتَ بقيَ سارياً، و حتى الظلام لم يحرّك ساكناً
و الكلمةُ الوحيدةُ التي نُطقتْ كانت كلمتي المهموسة، "لينور!"
هذا ما اجترأتُ، فتمتمَ الصدى مُرجعاً نحوي كلمةَ "ليونور!"
هذا فقط، و لا شئَ يقول.

استدرتُ قافلاً نحوَ الحُجرة، و الروحُ تتلظى داخلي كشُعلة
سرعانَ ما سمعتُ مرةً أخرى قرعاً يبدو أعنفَ، أعلى.
"مؤكدٌ،" قلتُ، "مؤكدٌ ما أسمع، شئٌ يقفُ فوقَ درفةِ المخدع؛
دعني إذن، أتحرى الأمرَ، و أقومُ بكشفِ هذا الغموض-
دعْ قلبي يتشجعُ للحظة، و يقومُ بكشفِ هذا الغموض؛-
"إنها الريحُ، و لا شئَ أقول."

 و ها هنا اندفعتُ فاتحاً الدُرفة، فإذا بي استقبلُ رعشةً و رَجفة،
ليدلفَ غرابٌ بالغُ الهيبةِ من الأيامِ الماضيةِ الغابرة.
لم يتكلّف حتى انحناءة، لم يتوقّف دقيقةَ راحة؛
و إنما، بهيئةِ سيدٍ أو سيدة، قامَ بالجثومِ فوقَ بابِ الحُجرة-
قامَ بالجثومِ فوقَ تمثالِ "بالاس" مباشرةً فوقَ بابِ الحُجرة-
جثمَ، و جلسَ، و لا شئ غيرَه.

و عندَها اغتصبَ الطيرُ الأبنوسي، ابتسامةً مني رغمَ عُبوسي،
بسببِ الاحتشامٍ الحزينٍ الصارمٍ الذي اصطنعهُ فوقَ ملامحِه،
"رغمَ أنَّ عُرفكَ مجزوزٌ حليق،" قلتُ، "إلا أنكَ لستَ برعديد.
أيّها الغرابُ المتجهمُ العتيق، تتسكعُ آتياً من شاطئِ الظلام-
أخبرني أعلمني ما اسمُك الجليل، اسمكَ المكتوب فوقَ شاطئ الظلام!"
قالَ الغرابُ: "ليسَ بعدَ الآن."

كم تعجبتُ من الطائرِ الأخرق، يُسمعني وعظَه الصفيقَ المُطلق،
رغمَ أنَّ جوابَه لا يحملُ معنىً- لا يحملُ صلةً بالموضوع؛
إذ أنهُ لا يسعُنا إلا أن نوافق، أنهُ لم يحصلْ لبشريٍ سابق،
أن حظيَ بتشريفِ طائرٍ كهذا يقفُ مباشرةً فوقَ بابِ الحُجرة-
طائرٍ أو وحيوانٍ يقفُ مباشرةً فوقَ التمثالِ المنحوتِ فوقَ بابِ الحُجرة،
باسمٍ مثلِ اسمِ "ليسَ بعدَ الآن."

و لكنَّ الغرابَ الجالسَ وحيداً، لم يرددْ فوقَ التمثالِ حديثاً،
سوى تلكَ العبارةِ، و كأنّ كلَّ روحه قد رُكّزتْ و انسكبتْ في تلكَ العبارة.
 لم يستكملْ من بعدِها حديثَه، لم يرتجفْ أو يحرّك أيَّ ريشة-
إلى أن تمتمتُ بصوتٍ بالكادِ يُسمعُ: "الأصدقاءُ عداه قد طاروا قبلَ ذلك-
غداً سوفَ يرحلُ بعيداً و يتركني، كما تركتني آمالي قبلَ ذلك."
عندها قالَ الطائرُ: "ليسَ بعدَ الآن."

مأخوذاً بسببِ الصوتِ المفاجئ، عندما كسرَ الهدوءَ السائد،
"لا ريب،" قلتُ، "أنّ هذا الذي يرددُه، هوَ كلُ ما يختزنهُ و ما يَدريه،
حفِظهُ من مالكٍ تعيسٍ سابق، ضربتهُ الفاقةُ و دهمتهُ المصائب،
تتابعتْ سريعاً و تتابعتْ أسرع، إلى أن أصبحت جميعَ أغانيه-
إلى أن أصبحت كلُ أناشيدِ أملِه، لا تحمل سوى شجناً واحداً تُمليه،
شجنَ "أنْ ليسَ.. ليسَ بعدَ الآن."

أما الغرابَ فاسترسلَ في خداعِه، يغتصبُ من جوفي الحزين ابتسامَه،
هرعتُ على الفور نحوَ مقعدٍ مُبطنٍ و أدرتهُ نحوَ طيرٍ و تمثالٍ و باب،
و بعدَها، بعدَ أن غرقتُ وسطَ المِخمل، بدأتُ أحللُ و أربطُ و أجعلْ
خيالاً فوق خيال، مفكراً أنْ ماذا- يمكنُ أن يكونهُ هذا الطائر الأقدم-
ما الذي كان يقصدهُ هذا المتجهم، الأخرقُ، النحيف، المشؤوم، الأقدم،
عندما نعقَ: "ليسَ بعدَ الآن."

هذا ما جلستُ مستغرقاً بحدسِه، دونَ أن أنبسَ بنبأةٍ أو هَمسة،
نحوَ ذاكَ الطائرِ الذي قد شعرتُ بعينيهِ الناريتين تنهشانِ فوقَ صدري؛
هذا و أكثر ما كنتُ أتكهنه، بينما رأسي بكسلٍ أُسندُه
فوقَ قماش الكرسي البنفسجي و مخمله، الذي انعكسَ فوقَه النور،
و لكن بحقّ الله لمن هذا الكرسي الذي ينعكسُ فوقَه النور،
هيَ لن تمسّه- ليسَ بعدَ اليوم!

و بعدَها، اعتقدتُ أنّ الهواءَ تكثّف، أنهُ مُعطرٌ ببخورٍ ليسَ تُكشف،
هبّت من عندِ ملاكٍ خطواتهُ تراقصت فوقَ فرشِ الغرفةِ المجدول.
"يا بائسُ" صرختُ، "إلهكَ قد أعارك –بحقِّ هذه الملائكة هو قد اختارك
عوناً- عوناً و نسياناً من أي ذكرىً تخصُ لينور!
اكرعْ آهِ اكرع شربة النسيانِ هذه، و انسَ تلك الراحلة، انسَ لينور!"
رددَ الغراب: "ليسَ بعدَ اليوم."

"أيها الرسول، يا قطعة الشرور!-طيراً أو شيطاناً، مع ذلك رسول! –
سواءٌ أجئتَ مغوياً أو أنّ العاصفة رمتكَ هنا فوقَ الساحلِ المهجور،
مقفر و مع ذلك لستَ بهيّاب، في هذه الصحراء المسحورةَ الهضاب-
في مسكني هذا المليءِ بالعذاب، أخبرني حقيقةً، أتوسلُ إليك-
هل هناك- هل هناك بلسم في جلعاد؟ قلْ لي- قلي لي، أتوسل إليك!"
رددَ الغراب: "ليس بعد اليوم."

"أيها الرسول، يا قطعة الشرور!-طيراً أو شيطاناً، مع ذلك رسول! –
بحقِّ السماءِ التي تنثني فوقَنا، بحقِّ الإله الذي نعلي في حبور-
أخبِرْ هذه الروح المثقلة بالأسى، لو أنها في الجنةِ البعيدةِ المدى،
تعانقُ العذراءَ المقدسة الخطى، تلك التي أسمتها الملائكةُ لينور-
تعانقُ العذراء النادرةَ البهى، تلك التي أسمتها الملائكةُ لينور؟"
رددَ الغراب: "ليس بعدَ اليوم."

"لتكنْ كلمتكَ ذي علامة افتراقنا، يا طير أو عدو!" صرختُ غاضبا-
"لتعدْ من حيثُ أتيت، لتعدْ نحوَ العاصفة أو إلى أسفل شواطئ الظلام!
لا تتركْ أيّ ريشةٍ سوداءَ رمزاً على الكذبِ الذي اختلقتهُ روحكَ جهراً!
و اترك لي وحدتي دونَ أن تمسّها عَرضاً! -و غادرْ التمثال أعلى الباب!
أخرجْ منقاركَ المغروزَ وسط قلبي، و غادرْ بجسمِكَ عبرَ الباب!"
رددَ الغراب: "ليسَ بعدَ اليوم."

لم يتحرك الغرابُ أو يرفرف، إذ ما زالَ يجلس، إذ ما زالَ يجلس
فوقَ التمثالِ الشاحبِ لبالاس مباشرةً فوقَ بابِ الغرفة:
أما عيناهُ فلقد كانتا تمتلكان، كل الشبهِ المماثلِ لشيطان،
و نورُ القنديلِ الباهرِ اللمعان، يلقي بظلهِ فوقَ أرضِ الغرفة؛
أما روحي الغارقة في أعماقِ الياس، وسطَ الظِلال العائمة فوقَ أرضِ الغرفة،
أبداً لن تُرفَع- ليسَ بعدَ الآن!

 ترجمة: عدي الحربش
2011

هناك 3 تعليقات:

  1. مرة، ذات صباحٍ رائق، بينما كنتُ غارقًا في أحلامٍ بلونِ وسِحر الماضي المكلَّل بالنور، سمعتُ فجأةً صوتَ قرعٍ خافت يأتي من خارج الغرفة. كما لو أن أحدهم كان يطرق بأظفاره طرقًا فوق تمثالٍ من رخام. أيُعقَل أن هناك مَن يريد زيارة الغراب العجوز الوحيد بعد كل هذا العُمر؟ تمتمتُ لنفسي: ربما.

    بلا مزيد من التردد، عزمتُ على النهوض من سريري وخطوتُ إلى الخارج وأنا أفكر فيما يمكن أن أقوله للزائر المحتمَل، معتذرًا عن نومي حتى هذه الساعة، التاسعة صباحًا إلا دقيقة. وفتحتُ باب البيت، فإذا بنور النهار، ولا شيء غيره. استدرتُ قافلًا نحو الحجرة، أتساءل في داخلي إن كان هذا حلما. لكنني سرعان ما سمعتُ قرعًا أعلى. شيءٌ ما في الداخل؟ هل هي الريح فقط؟ ربما.

    وهنا انتبهتُ إلى أن الصوت يأتي من غرفة المكتب. ليس من داخلها وإنما من خارج نافذتها الكبيرة. بيدٍ مرتعشة قليلًا أزحتُ الستارة الخضراء الموشاة بزخارف بيضاء، لأرى وراء الزجاج عصفورًا في لون الأبنوس، يرفرف بجناحيه في الهواء ولا يهبط لحظةً للراحة، وإنما يندفع ليضرب الزجاج بمنقاره الصغير، ثم يتراجع ويعاودها. تعجبتُ من الطائر الأخرق للحظة، ثم تنبَّهتُ إلى أن زجاج النافذة من النوع العاكس، وأنه يبدو من الخارج مثل المرايا. لا بد إذن من أنه يرى عصفورًا آخر في تلك المرآة، ويسعى للتيقن من حقيقة وجود هذا المخلوق الذي يشبهه تماما في كل شيء، ربما.

    ينتزع مني ابتسامة. عصفور صغير ربما، لكن همَّته بلا حدود. وأستطيع أن أقول إن فرصةَ أن ترى مخلوقًا بريًّا، من هذا القرب وعلى هذه الحال، قد لا تتكرر كثيرًا. ووجدتُ نفسي أتمتم: الرفاق كلهم قد طاروا قبل ذلك، والآن سوف يرحل هو الآخر ويتركني خاليا، إلا من الذكرى ربما.

    أنتبه الآن فقط إلى أن أصوات قرع الزجاج بالمنقار تماثل تمامًا أصوات نقر زوجتي على لوحة المفاتيح القديمة. كان نقرها يتعالى كلما توغَّلَت في الكتابة، وكنتُ أشكو إليها -بحماقتي المعهودة- من الضجيج. تحضرني الأصوات فأنظر إلى قماش الأريكة الرمادي الذي أشرقَت عليه الشمس وأظهرَت فوقه حبَّات غبارٍ تحوم في الهواء المعطَّر بالبخور، وأفكِّر في أنها لن تمسَّ هذا النسيج مرة أخرى، ربما.

    لكنني أصعد بنظري إلى رف المكتبة الأدنى، وأرى صَفًّا من كتبٍ تحمل اسمَها الذي تعرفه الملائكة، فأفكر في أنها لم ترحل حقًّا، وربما لن تفعل أبدا. وفي أن العصفور الذي طار بعيدًا قبل لحظات، سيعود ليطرق نافذتي مجددًّا ذات يوم، في التاسعة صباحًا إلا دقيقة، ربما.

    https://eddeeblog.blogspot.com/2022/10/blog-post.html

    ردحذف