الأربعاء، 8 مايو 2013

موبي ديك



قبل أربع سنوات، اشتريتُ من إحدى مكتبات أوتاوا نسختي الخاصة من رواية ميلفيل الشهيرة موبي ديك. كانت نسخة فاخرة، التجليد سميك، و الصفحات مزينة برسومات روكويل كينت Rockwell Kent ، ذاك الرسام الأمريكي الذي ترك بصمته الواضحة في تخيلنا للقبطان إيهاب و الحوت الأبيض و إسماعيل و كويكويك. لم تكن تلك النسخة هي الأولى التي ابتاعها للرواية الشهيرة، فلقد سبق أن اشتريت الترجمة العربية بواسطة الدكتور إحسان عباس قبل خمس عشرة سنة من أحد معارض الكتاب بالرياض غير أني لم أقرأها. كما سبق أن اشتريت نسخة انجليزية رخيصة أظنها كانت بخمسة ريالات غير أني لم أقرأها أيضاً. لم أكن في ذلك الوقت جاهزا لغويا و لا معرفيا كي أقرأ الرواية و أعطيها حقها، تماماً كما كان تشيخوف يؤجل قراءة الجريمة و العقاب حتى يصبح جاهزا لها. كنتُ قد سمعتُ بوعورة الرواية و امتلائها بفقرات التحويت و المعلومات الموسوعية التي لا تخدم الحبكة، إلا أني أيضا كنتُ أدرك أهمية الرواية و قيمتها في التراث العالمي و الأمريكي بشكل خاص. لقد قال أحدهم أن موبي ديك لم تكن لتكتب إلا في أمريكا و في القرن التاسع عشر تحديداً. أما البروفيسور هارولد بلوم فلقد قال: "إذا كان هاملت و دون كيخوته هما من يمثلان الهوية الأوروبية، فإن والت ويتمان و القبطان إيهاب -بلا شك- هما من يمثلان الهوية الأمريكية."

واحدة من الأفكار التي كانت تسحرني هي الآتي: أن سفينة الباقوطة Pecqoud ما زالت راسية على ميناء نينتاكيت، تنتظرني، منذ أن كتب ميلفيل روايته في القرن التاسع عشر، رغم أنها أبحرت ملايين المرات من قبل و غرقت وسط المحيط، إلا أنها تنتظر كل قارئ جديد على ميناء نينتاكيت، و بمجرد أن يفتح ذلك القارئ غلاف الكتاب سوف تبحر للمرة الأولى معه، و سوف تطارد موبي ديك، و سوف تغرق في المحيط في الأخير. هذه هي ميزة هذا الكتاب، إنها رحلة، تنتظرك، و كما أن الواحد منا يتكلف شططا كي يختار المركب الأجود الذي سيقله، الأحرى بنا إذن أن نختار الكتاب الأفضل الذي سنبحر فيه خلف موبي ديك. لهذا السبب- عندما رأيت نسخة الـ Modern Library قبل سنتين برسوماتها الجميلة و تجليدها الفاخر قلت لنفسي: "إذا كنتُ سأقرأ الرواية أخيرا فلا بدّ أن أقرأها في هذه النسخة." لهذا السبب أيضا أنصح كل من يجيد اللغة الإنجليزية أن يقرأ الرواية بلغتها الأم بدل اللجوء إلى الترجمة العربية. 

الكل يعرف شيئاً عن هذه الرواية. الكل يعرف أنها تبدأ بتلك العبارة الشهيرة : "نادوني بإسماعيل Call me Ishmael." الكل يعرف أن بطلها هو القبطان إيهاب، ذلك القبطان المجنون الذي يبحر خلف الحوت الذي قضم رجله، موبي ديك، و الكل يعرف أن هذه الرحلة محكومة بالدمار. الكل أيضاً يعرف أن الأمور ليست كما تبدو عليه، و أن الحوت رمز لشيئ ما، و أن النقاد أشبعوا هذا الشيء درسا و اقتراحاً و تنظيراً إلى أن قال أحد المعلقين هازلاً: "لا تقل أبداً أي شيء عن أي كتاب يمكن لرجل متزن أن يقوله. على سبيل المثال، افترض أنك تدرس موبي ديك. أي شخص متزن سوف يقول أن موبي ديك هو ذاك الحوت الأبيض الكبير، إذ أن شخصيات الرواية تسميه الحوت الأبيض الكبير ما يقارب الإحدى عشرة ألف مرة. و لذا، في بحث تخرجك يجب أن تقول أن موبي ديك هو في الحقيقية جمهورية إيرلندا. البروفيسور الذي يشرف على رسالتك سوف يعتقد أنك بالغ العبقرية."



ضحكت كثيراً عندما قرأت التعليق السابق، و لكن الأمور ليست بهذا التعقيد و لا بهذا الاستغلاق، لقد كان ميلفيل واضحاً و مباشرا عندما تحدث بلسان القبطان إيهاب عن ماذا يعني له الحوت. هذا الوضوح و هذه المباشرة هما مزيتان أحمدهما لميلفيل و أعدهما شرطا أساسيا في تمييز المؤلف الجيد من السيء: المؤلف الجيد يحمل فكرة واضحة وعميقة و يريد أن ينقلها إلى القارئ، المؤلف السيء يحس أنه يحمل فكرة ما و يقوم بالتعمية على هذه الفكرة لأنه لا يستطيع أن يسيطر عليها أو أن يتبينها. يقول هيرمان ميلفيل على لسان القبطان إيهاب متحدثا عن الحوت الأبيض في الفصل الأكثر إثارة The Quarter-Deck: "اسمع و لمرة ثانية،-تلك هي الطبقة السفلى المختبئة. كل الأشياء المرئية -أيها الرجل- لا تعدو أن تكون قناعا من الورق المقوّى. و لكن في كل حادثة- وسط الحدث المُعاش، الفعلة اليقينية- ها هنالك شيء غير معلوم و لكنه مُفكِر مُدبِّر، إنه يخفي قالب ملامحه و يشكلها خلف ذلك القناع الغير عاقل. لو أراد الرجل أن يضرب، فليضرب عبر القناع! كيف للسجين أن ينفذ إلى الخارج عدا أن يرتمي عبر الجدار؟ بالنسبة لي، الحوت الأبيض هو ذاك الجدار، دُفع قريباً من وجهي. أحيانا أفكر أنه لا يوجد شيء وراءه. و لكن ها هنالك كفاية. إنه يرهقني، يضع فوقي الأحمال، أرى فيه قوةً شنيعة مُفرطة، إضافةً إلى حقد هائل ينفخ فيه. ذاك الشيء الغامض هو ما أكره، و سواء أكان الحوت الأبيض عاملاً أم أساساً، سوف أصبُ عليه جام غضبي."




القبطان إيهاب هو أكثر شخصية مهرطقة Blasphemous في تاريخ الأدب. لا يتحدث ميلفيل عن قناعات بطله الدينية بطريقة مباشرة، لا ندري هل هو ينكر الإله أم يؤمن به، هل هو يؤمن بإله واحد أم بآلهة مختلفة. عندما يريد أن يوجه لعنة إلى السماء يقوم بتوجيه اللعنة إلى (الآلهة)، هكذا، بصيغتها الجمع الكلاسيكية اليونانية، هو لا يؤمن بها يقينا، و لكنه يحتاج إليها كي تكون هدفا للعناته. كتبتُ مؤخراً قصة بعنوان "اختفاء الحاكم بأمر الله" و كم كانت دهشتي كبيرة حينما تبينت الملامح المشتركة بين قصتي و رواية ميلفيل. كلا النصين يستخدمان قصة النبي يونس كركيزة لإيصال رسالتيهما، هذا ما حسبته الرابط الوحيد الذي يربطهما، و لكني عندما استكملت الرواية إذا بي ألمح شبها كبيرا بين الحاكم الذي اختلقت و بين القبطان إيهاب. الحاكم في قصتي مشغول بقضية النسق و الفوضى و أهميتهما بالنسبة لإيمانه، و هذه مسألة أساسية في رحلة إيهاب الميتافيزقية خلف الحوت الأبيض. في وسط الرواية، في فصل غير مشهور بعنوان "أبو الهول The Sphynx" يوجه القبطان إيهاب خطابه إلى رأس حوت عنبر عُلق على طرف السفينة فيقول: "لقد مضيتَ إلى حيثُ لا جرس و لا غواص يمكن أن يمضي، لقد نِمتَ إلى جانب بحارة غرقى عديدين كانت أمهاتهم على استعداد لدفع حياتهنّ من أجل أن يوارين جثمانهم. لقد رأيتَ العاشِقين يقفزان و هما يطوقان بعضهما من السفينة المشتعلة، قلبا لصقَ قلب، غاصا تحت الموجة المبتهجة، وفاءاُ بحق بعضهما، من بعد أن تنكرت السماء لهما. لقد رأيتَ البحار المغدور يُلقى بواسطة القراصنة من مقدمة سفينة الليل، لساعات أخذ يغوص وسط ليل الحوصلة النهمة، في الوقت الذي يبحر فيه قتلته دون ضرر-- في الوقت الذي تضرب فيه البروق و العواصف سفنا مجاورة كانت ستنقل زوجا وفيا إلى ذراعي زوجته المتنظرة. آهٍ أيها الرأس! لقد رأيتَ ما من شأنه أن يقصم الكواكب و يجعل من النبي إبراهيم كافراً، و رغم ذلك لا تتفوه بحرف!"


القبطان إيهاب شخصية مفكرة قلقة، يرى الفوضى خلف وشاح النسق، ثم يكون هو نفسه ضحية لهذه الفوضى فينهش الحوت الأبيض قدمه -هكذا- بدون مبرر أو تفسير. نفسه تمتلئ حنقا و حقداً تجاه هذه الإرادة الخفية التي تحرك الكون، سواء أكانت إلها أم آلهة أم الطبيعة نفسها. هو يستطيع أن يتبين العقل المدبر غير أنه لا يراه إلا من خلف قناع الطبيعة. هو يقف عاجزاً في معركته هذه غير المتكافئة. يريد أن يسدد ضربة إلا أن خصمه غير موجود. لهذا السبب (يستخدم) القبطان إيهاب الحوت الأبيض. إن موبي ديك -الحوت الأبيض- لا يعدو أن يكون رمزا جسمانيا ضرورياً كي يستطيع القبطان إيهاب تسديد طعنته إلى تلك الإرادة المدبرة. لهذا السبب أعدُ هذه الرواية أكثر الروايات هرطقةً Blasphemous ، إنه القبطان إيهاب يريد أن يوجه طعنة إلى الله من خلال الحوت، و لهذا السبب أيضا أعتبر هذه الرواية أكثر رواية إيمانية، لأن القبطان إيهاب و البيكواد و من عليها سوف يغرقون في النهاية. 

أكثر ما يعجبني في هذه الرواية هو مخالفتها لكل ما هو معتاد. قرأت الكثير من روايات القراصنة و مغامرات البحر (جزيرة الكنز، تمرد في السفينة باونتي، ذئب البحار، القبطان بلود، ... إلخ) في كل مرة كان البحارة هم من يثورون على القبطان و يختطفون المركب و يغيرون غرض الرحلة، في موبي ديك كان القبطان هو من اختطف السفينة رغم أنف البحارة و المساعدين كي يغير غرض الرحلة و يحوله من هدفها البرئ الأساسي المتمثل بجمع زيت العنبر إلى هدفها الميتافيزيقي المهرطق: توجيه طعنة إلى الإرادة المحركة للكون. ستاربك (مساعد القبطان الأول) كان الشخصية الوحيدة التي أدركت الهدف الميتافيزيقي من وراء الرحلة، لقد كانت هذه لعنة ستاربك. كل البحارة الآخرين كانوا يعتقدون أن إيهاب يريد توجيه طعنة للحوت الذي قضم ساقه، و بما أن السفينة انطلقت لصيد الحيتان فلا ضير من اصطياد الحوت الأبيض موبي ديك. حاول ستاربك عدة مرات أن يتمرد على القبطان إيهاب أو أن يثنيه عن عزمه، بل فكر في إحدى المرات أن يقتله، و لكن إرادته كانت أضعف من أن تحسم الأمر، من هنا عقد الكثير من النقاد مقارنة ما بين ستاربك و هاملت، الأمير الدينامركي المتردد. على فكرة، سلسلة المقاهي الأمريكية الشهيرة ستاربك Starbuck تستعير اسمها من هذه الشخصية الروائية المغمورة.

كثير من القراء لا يتنبه إلى الطبيعة الخارقة (الفانتازية) للرواية، و السبب قد يعود إلى ثقتهم بميلفيل. هيرمان ميلفيل مؤلف محتال، كثيرا ما يورد على لسان إسماعيل كذباتٍ يريد منها أن تدفعنا إلى ما يعاكسها. يقول في أحد المواضع أنه لا يوجد -بالنسبة إليه- أمر أكثر بشاعة من أن يقرأ أحدهم مغامرته البحرية هذه على أنها قصة رمزية، في نفس الوقت الذي تنهمك فيه شخصياته في صناعة الرموز و إحكامها. أيضاً يحاول إسماعيل جاهدا أن يقنعنا أن كل الأشياء التي يذكرها عن الحيتان واقعية، يؤكد مرارا و تكرارا على هذه النقطة، مما يدفعنا دفعاً إلى الشك في هذا الادعاء و و الريبة من شخصية إسماعيل. بالنسبة إليّ، إحدى أكثر نقاط الرواية جذبا هي هذه الطبيعة الفانتازية اللانهائية للرواية. فلتتذكروا: هناك حوت واحد يريد القبطان إيهاب أن يعثر عليه و أن ينتقم منه. لكي يعثر إيهاب على حوته يتوجب عليه أن يقطع محيطات العالم العريضة و أن يتوافق و يلاقي الحوت ذات يوم! يريد ميلفيل أن يقنعنا أن أمرا مثل هذا ممكن أن يحدث، بينما نعلم نحن أننا قد نعيش مع شخص في مدينة واحدة (بل في حي واحد) دون أن نستطيع أن نلاقيه مصادفة دون تدبير. فما بالك بمحيطات العالم! انتبهوا، هذه النقطة ليست عيبا في الرواية بل نقطة جذب، إذ أن الرواية ميتافيزيقية و ليست واقعية، هذه اللانهائية تزيد من تجريد الرواية و ترفعها نحو المثالي و المطلق.

كثير هو النقاش الذي يتحدث عن وعورة الرواية و امتلائها بتفاصيل التحويت التي لا تصب في الحبكة الرئيسية، بل أن هناك من ينصح بالقفز فوق هذه الفصول و الاكتفاء بقراءة الصفحات التي تحتوي على أحداث و حركة، و تلك -لعمري- أغبى نصيحة قرائية سمعتها بحياتي. كما قلتُ سابقاً، هذه الرواية عبارة عن رحلة، سفينة الباقوطة تنتظرك على ميناء نينتاكت، و لكي تستمتع و تفهم ما يدور حولك ينوي ميلفيل أن يمطرك بكل معلومة أو تفصيل يمكن أن يكون له دخل بالتحويت. النقطة الثانية تخص موضوع القصة، فإذا كانت القصة تستخدم الحوت الأبيض كرمزٍ لفوضوية الطبيعة و فوضوية الإرادة المدبرة لتلك الطبيعة فمن الأحرى أن يكون بناء القصة أيضاً فوضوياً لا يسكن إلى نسق. في واحد من أجمل فصول الرواية (عن بياض الحيتان) يقول إسماعيل أن اللون الأبيض هو لون مرعب لأنه غياب الألوان و اجتماعها في نفس الوقت، إنه الكل و العدم، إنه لون اللانهاية. في فصلٍ آخر لا يقل روعة (عن الحيتان في اللوحات، في الأسنان، في الخشب، في الأعمدة، في الصخور، في الجبال، و في النجوم) يجعل إسماعيل الحوت مشهداً متواجدا في كل مظاهر الطبيعة، بل تستطيع أن تراه فوقك في قبة الفلك و في النجوم. الحوت رمز لفوضى الطبيعة و اضطرابها، و لذا حقّ للرواية أن تكون فوضى عارمة. الرواية لا تسكن إلى بناء ولا تتخذ أسلوبا واحدا، بل لو سألتني أن أصفها لك لقلت: "اقطع خمسمئة صفحة من موسوعة عن الحيتان، مئة صفحة من إحدى مسرحيات شكسبير، مئة صفحة من إحدى روايات مغامرات البحر بلسان راوٍ أول، و عندها سوف تخرج لك موبي ديك." ميلفيل لم يستخدم هذا الأسلوب الفوضوي عَرَضا أو لأن الرواية آنذاك كانت في بواكيرها كما يدعي البعض، لقد اتخذت الرواية شكلها الخاص قبل ميلفيل عن طريق كتاب كبار مثل والتر سكوت و ثاكري و ديكنز، بل إن روايات ميلفيل السابقة typee, omo كانت روايات تقليدية ذات بناء و نسق واضحين، و لكن لأن الرواية تتحدث عن بطل يثور على فوضى الطبيعة و لا معقوليتها، كان من الجدير بميلفيل أن يعمد إلى هذه الطريقة الفوضوية في كتابتها، و التي جعلت منها شيئا كبيرا لا نهائيا ضخما أشبه بالكون.

هناك نقطة لم يُشار إليها كثيراً و هي الكوميديا المتفجرة في سطور النص. لا أتذكر رواية كنتُ أضحك بصوتٍ عالٍ و أنا أقرأها كما حدث مع دون كيخوته و موبي ديك. الكوميديا في موبي ديك تعتمد بشكل عالٍ على اللغة أكثر من اعتمادها على الموقف، و لهذا يغيب الكثير من سحر الرواية بعد ترجمتها. في واحدٍ من أكثر المشاهد التي أضحكتني في الرواية، يتفاجأ إسماعيل أثناء إبحار الباقوطة بركلةٍ من مالك السفينة على مؤخرته. إسماعيل و نحن لسنا مستعدين لهذه الركلة، إذ أن إسماعيل عودنا على أن يكون كاميرتنا السلبية في الرواية، هو يراقب و يصف بدون أن يكون له دور إيجابي أو فعال. هكذا أراد ميلفيل أن يجعله. و لكن عندما تبحر السفينة يعتري مالكيها هياج غريب قبل توديعها، إنها فرصتهما الوحيدة كي يمارسا حياتهما الماضية (فلقد كانا بحارة فيما مضى) قبل أن يودعا السفينة. إنها اللحظة الأكثر حركة في النص، الكل يسحب و يتسلق و يجر و يحمل، بينما صرخات مالك السفينة القبطان بيليج تتعالى: Spring.. Spring.. "فزّوا على أرجلكم، اكسروا عواميدكم الفقرية شغلاً".. و لكن إسماعيل اعتاد و عودنا على أن يقف مراقبا يصف و حسب، ليُراع فجأة برجل القبطان بيليج و هي تركل مؤخرته. ميلفيل كان من العبقرية بمكان ليصنع هذه الركلة التي ذكرت إسماعيل و ذكرتنا أنه ليس من الكافي أن نراقب و حسب، بل إننا متورطون حتى أخمص قدمينا وسط الرحلة. الكوميدية لا تأتي من الموقف و حسب، و إنما باللغة الملتوية المضحكة التي يصف إسماعيل بواسطتها الموقف:

Meantime, overseeing the other part of the ship, Captain Peleg ripped and swore astern in the most frightful manner. I almost thought he would sink the ship before the anchor could be got up; involuntarily I paused on my handspike, and told Queequeg to do the same, thinking of the perils we both ran, in starting on the voyage with such a devil for a pilot. I was comforting myself, however, with the thought that in pious Bildad might be found some salvation, spite of his seven hundred and seventy-seventh lay; when I felt a sudden sharp poke in my rear, and turning round, was horrified at the apparition of Captain Peleg in the art of withdrawing his leg from my immediate vicinity. That was my first kick.

كيفَ تترجمُ هذه اللغة الفكاهية الملتوية؟ سأحاول:

"في هذه الأثناء، و بينما هو يراقب الجزء الآخر من السفينة، أخذ القبطان بيليج يعصف و يشتم فوق مؤخرة السفينة بطرقة بالغة في الرعب. كدتُ أعتقد أنه سيُغرق السفينة حتى قبل أن يسحبوا المرساة، توقفتُ لا شعورياً مستندا على رمحي و سألت كويويك أن يفعل مثلي، مفكرا في المخاطر التي يمكن أن نتعرض لها بانخراطنا في رحلةٍ قبطانها هو الشيطان نفسه. أخذت أطمئن نفسي أنه من الممكن أن نجد بعض الخلاص بواسطة بيلداد التقيّ، رغم قسطه السبعمئة و السبعة و السبعين، عندما استشعرتُ وخزةً مُفاجئة في مؤخرتي، و عندما استدرت، إذا بي أُراع بخيال القبطان بيليج و هو منخرط في عملية سحب قدمه من الجزء الأكثر خصوصية فيني. تلك كانت ركلتي الأولى."

لا يمكن أن توجد ترجمة تنصف السطور الإنجليزية الموجودة بالأعلى. تأملوا كيف وصف فعل الركلة بالحركة البطيئة بمجرد أن استخدام ألفاظا مثل: the art of withdrawing his leg from my immediate vicinity..

مثل هذه الفكاهة تتكرر كثيراً في ألفاظ ستوب Subb ، المساعد الثاني للقبطان إيهاب، و الذي يلجأ للضحك و الفكاهة في أكثر الأوقات حلكة كي يغطي جبنه. إحدى أكثر المقاطع لذة في الرواية هي تلك التي تصف الكلام الذي يتفوه به ستوب نحو بحارته كي يشجعهم على التجديف باتجاه الحيتان. ستوب لا يترك شتيمة أو لعنة إلا و يصبها فوق رؤوسهم:

Three cheers, men- all hearts alive! Easy, easy; don't be in a hurry- don't be in a hurry. Why don't you snap your oars, you rascals? Bite something, you dogs! So, so, so, then:- softly, softly! That's it- that's it! long and strong. Give way there, give way! The devil fetch ye, ye ragamuffin rapscallions; ye are all asleep. Stop snoring, ye sleepers, and pull. Pull, will ye? pull, can't ye? pull, won't ye? Why in the name of gudgeons and ginger-cakes don't ye pull?- pull and break something! pull, and start your eyes out! Here,"



في فصلٍ آخر، عندما يظهر القبطان إيهاب فوق الدكّة للمرة الأولى و يشير ستوب هازلاً للقبطان إيهاب أن ساقه العاجية تزعج نوم البحارة، يقوم القبطان إيهاب بركله، مما يحطم كرامة و إرادة ستوب المسكين تماماً. ينام ستوب متأثراً، و يحلمُ حلما غريبا مفاده أنه يركل هرما كبيرا شامخا، و عندما يجئ الصباح يتوجه ستوب نحو صديقه فلاسك ليحكي له الحكاية ثم يقول مبررا خنوعه بخصوص الركلة: "ليس من حقي أن أستاء أو أشكو إذ أن القدم التي ركلتني قدم صناعية.".. هل سبق أن قرأتم شيئاً أكثر فكاهة من هذا؟


أستطيع أن أتحدث عن موبي ديك بلا توقف، و لكني سأختم بالحديث عن تأثير أديب أحبه كان له الفضل الكبير في اتخاذ الرواية شكلها الحالي، و أعني به الأديب الأمريكي ناثانييل هوثورن Nathaniel Hawthorn. هوثورن من أحب الأدباء بالنسبة إلي، و يشكل مع بو و ميلفيل قمة أدب "إنجلترا الجديدة" الذي أعده أعظم أدب أمريكا. هوثورن هو أفضل من يكتب عن الشر، عن النواحي المظلمة في النفس البشرية، و رغم أن شهرته تعتمد على روايته الحرف القرمزي The Scarlet Letter، إلا أن عبقريته تتبدى واضحة في مجموعتيه القصصيتين: قصص من نزل قديم Moses from an old Manse و حكايات حُكيت مرتين Twice told stories. لا أعتقد أن هذه القصص قد ترجمت إلى العربية، و هي تستحق أن تترجم و أن تُقرأ و أن تُتجر. هوثورن هو أيضا أبو الأدب الرمزي، لا أحد يستخدم الرموز ببراعة مثل هوثورن. الكثير من النقاد يجزم أن موبي ديك عندما بدأت في عقل ميلفيل كانت فقط مشروع مغامرة صيد حيتان، إلا أن صداقة هوثورن التي بدأت سنة 1850 م جعلت ميلفيل يغير روايته مئة و ثمانين درجة ليجعلها رحلة ميتافيزيقية رمزية هي الأشهر في الأدب الأمريكي. الأمر لا يحطّ من شأن ميلفيل، فكما اقترح بوشكين موضوع رواية غوغول الأشهر (نفوس ميتة) كذلك فعل هوثورن. هو لم يقترح الموضوع و إنما غير الهدف و الأسلوب. هناك فصل بالغ الغرابة في رواية موبي ديك هو الفصل الثاني و العشرون The Lee Shore يرثي فيه ميلفيل إحدى شخصياته التي لم تظهر سوى مرة واحدة في بداية الرواية! كل من قرأ الرواية يتعجب من هذا الفصل و لا يفهمه، أما أنا فإني أفهمه كشاهدِ قبر يضعه ميلفيل فوق بطل مخطوطة روايته الأولى. كان ميلفيل يريد أن يكتب رواية مغامرات و صيد حيتان، و اختار لبطولتها شخصية أسماها بولكينجتون Bugkigton، ثم حدث و قابل هوثورن، و قرأ له، و تناقش معه في تلك الأمسيات الممتعة التي قضاها في منزله، ليتغير مشروع الرواية، و لينبثق القبطان إيهاب و الحوت الأبيض موبي ديك. لم يهن على ميلفيل أن يعيد كتابة فصوله السابقة أو أن يمحو اسم بولكينجتون. لقد اختار بكل بساطة أن يتخلص منه و أن يرثيه في ذاك الفصل القصير الغريب قائلاً:
 O Bulkigton! Bear thee grimly, demigod! Up from the spray of thy ocean-perishing-- straight up, leaps thy apotheosis



الثلاثاء، 7 مايو 2013

غداً، ساعةَ الفجر



في الثامن عشر من جولاي 1843، و تحت كآبتي زواج و ابتعاد ابنته الأثيرة ليوبلدين و فشل مسرحيته Les Burgraves، قرر فيكتور هيغو أن يمنحَ نفسه عطلة و أن يسافر بمعية عشيقته جولييت دراوت إلى أسبانيا. أسبانيا هي مرتع طفولة هيغو، حيث عاش مع أمه و أخيه في كنف والده الجنرال العامل في جيش بونابرت. رغم تطلع هيغو إلى هذه الرحلة، إلا أنه كان ممتلئا بمشاعر سوداوية طوال الوقت. حتى البحر الذي كان يبعث السعادة عادة في نفسه، لم يزدها إلا تجهما و تشاؤما. بعد شهرين، وصل هيغو إلى جزيرة أوليرون. في ذلك اليوم كتب في مذكرته الخاصة: "الموت في روحي... الجزيرة بدت و كما أنها كفن كبير مبسوط فوق البحر، و القمر مشعل فوقه."

قضى هيغو الليلة مع دراوت في فندق الجزيرة. في اليوم التالي عاودا السفر، و توقفا في طريقهما في روشفورت. كان عليهما الانتظار فيها لمدة ست ساعات قبل أن تستكمل العربة طريقها. في ساحة المدينة، و في مكانٍ يدعى (مقهى أوروبا)، جلس هيغو مع جولييت و طلبا بعض الجعة. أمامها على طاولة خالية، كانت الصحائف الباريسية ملقاة. سحبت جولييت جريدة Le Charivari و سحب هيغو صحيفة Le Siecle. كتبت جولييت في مذكرتها: "فجأة، انحنى حبيبي المسكين مشيرا نحو الصحيفة، قائلاً بصوت مخنوق: شيء رهيب حدث!.. شفتاه كانتا شاحبتين، عيناه حدقتا دون غاية، وجهه و شعره غارقان في العرق، يده المسكينة أطبقت فوق صدره و كما أنها تحاول منع قلبه من الانفجار."

ما قرأه هيغو في ذلك اليوم هو خبر غرق ابنته ليوبلدين مع زوجها تشارلز في نهر السين قبل خمسة أيام. ليوبلدين التي بالتو تزوجت، ابنته الكبرى الأثيرة، الأكثر شبها بوالدها، غرقت! و هو بعيد عنها و مشغول مع عشيقته بالتجول! نهض هيغو متحاملا و قال لجولييت أنه يجبُ أن لا يجذبا الأنظار. تركا القهوة و أخذا يمشيان بلا وجهة تحت الشمس الحارقة. توقفا مرتين، الأولى فوق كرسي صخري، و الثانية فوق العشب. كانت العجائز حولهما يغنين بإحدى قصائد هيغو. أرسل هيغو رسالة إلى زوجته آديل يقول فيها: "يا إلهي! ماذا فعلت بك؟"

عندما وصل هيغو إلى باريس كانت ابنته تحت التراب. لم يكتب أي شعر لمدة تزيد عن السنتين و النصف. بعد مرور عام، بدأ سلسلة من رحلات الحج نحو قبر ابنته في Villequire. لم يتجرأ على كتابة شعرٍ يرثي فيه ابنته إلا بعد مرور سبع سنوات، عندما أصبح منفيا في جزر القنال. هناك ضم مجموعة من قصائد المتفرقة في ديوانه الشعري تأملات Les Contemplations . قام بتقسيم الديوان إلى جزئين: الأول بعنوان (آنذاك)، و الثاني بعنوان (الآن).. و بينهما صفحة فارغة مكتوب عليها تاريخ وفاة ابنته ليوبلدين.

قصيدة (غداً، ساعة الفجر) Demain, des l'aube تُعد من أشهر القصائد الفرنسية على الإطلاق. تتألف القصيدة من ثلاث رباعيات متتالية، يتحدث فيها الشاعر عن عزمه على النهوض فجرا للسفر نحو قبر حبيبته كي يضع بوكيها من الزهور فوقه. بالطبع كل من قرأ القصيدة فهم أن المقصودة بها ليوبلدين، و أن المتحدث هو هيغو نفسه. القصيدة غُنيت مراتٍ عديدة، و هذه هي أفضل النسخ التي وجدتها في يوتيوب. أنا أسوق الفيديو مع الترجمة هنا كي يستطيع القارئ أن يفهم الكلمات و يستشعر جمال الألفاظ في نفس الوقت. لا تنشغلوا بالصور الموجودة في الفيديو فهي رديئة جدا، و كذلك الغناء، ركزوا فقط على الموسيقى الحزينة و النوح الحزين للكمان. و أنتم تقرؤون كلمات هيغو، تخيلوا معه الأرياف وهي تتلون بلون فضي عند الفجر، و الغابات الشاسعة التي يقطعها، و الجبال، و العجوز الذي يمشي محني الظهر مثقلا بالذنب كي يصل قبر ابنته الغالية ليوبلدين. 






غداً، ساعةَ الفجر، عندما ما تبيّضُ الأرياف،
سوفَ أنطلق. أترين: أعلمُ أنكِ تنتظرين.
سأمضي عبر الغابة، سوف أعتلي الجبال.
لم أعدْ أطيقُ البقاءَ بعيداً عنكِ أكثر.

سوفَ أمشي و عيوني شاخصةٌ نحوَ أفكاري،
لن أرى شيئاً حولي، لن أسمع أيَّ نبهة،
وحيداً، مجهولاً، محدودبَ الظهرِ، معقودَ اليدين،
حزيناً، و اليومُ لديّ سيّان مع الليل.

لن أتطلعَ باحثاً عن الذهبِ في الغروب،
و لا الأشرعة البعيدة المغادرة صوبَ هارفلور
و عندما أصل، سوفَ أضعُ فوقَ قبركِ
إكليلاً من براعم الخلنج و الهولي الأخضر.


السبت، 4 مايو 2013

في حب ناظم حكمت




أعرفُ أربعة شعراءٍ يمتلئ شعرهم بعاطفةٍ جيّاشة، بحبٍ هائل من النادر أن تلقى مثله: عمر بن أبي ربيعة تجاه النساء، لوركا تجاه الحياة، جلال الدين الرومي تجاه الله، و ناظم حكمت تجاه الناس. لا أحبُ أشعار الاشتراكية و السياسة، و لكن شعر ناظم حكمت استثناء، إذ أن حبه يتعدى النظريات و المنظمات ليشمل الانسان و الأرض و الحياة بجميع صورها. ناظم حكمت عانى كثيرا أثناء حياته، إذ بقي في السجن لمدة أثنتي عشرة سنة، و منعت كتاباته و صودرت في بلده تركيا، و اضطر إلى الهرب منها فوق قاربٍ في ليلة ليلاء خوفا على حياته. ظل منفيا، ليتنقل ما بين موسكو و بولندا و وارسو و براغ، و ليموت بعيدا عن وطنه في عام 1963. رغم ذلك، شعره لا يمتلئ بالهجاء و الكراهية كباقي الثوريين و الحركيين، و إنما هناك عاطفة جياشة متعالية تريد أن تطوق بذراعيها جميع أشكال الحياة على هذه الأرض.

ها هنا سأضع ثلاث قصائد أثيرة له من ترجمتي: الأولى يخاطب فيها زوجته من سجنه في برصا، الثانية ثورية يتحدث فيها عن همومه بعد أن أصابته ذبحة صدرية في مشفى السجن، و الثالثة يتحدث فيها عن فلسفته في الحياة..



رسالة إلى زوجتي

(.. كتبها داخل سجن برصا)

واحدتي .. ياحبي!
رسالتكِ الأخيرةُ تقول:
" رأسي يؤلمني ..
قلبي مذهول! "
تقولينَ:
" لو شنقوك ..
لو أنني فقدتك ..
سأموت! "

سوف تعيشين .. حياتي –
ذكراي سوف تتلاشى كدخانٍ أسودَ وسط الريح
بالطبعِ سوف تعيشين .. ياسيدة قلبي الحمراء الشَعر:
في القرنِ العشرين
فالحزن ولو طال
لن يبقى أكثرَ من عام.

الموت-
جسدٌ يتدلى من حبل.
قلبي
لن يقبلَ بمثلِ هذا الموتْ.
ولكن
تستطيعين أن تراهني لو أنَّ
يدَ غجريٍ تعيس
شعراءَ .. سوداء .. عنكبوتية
زحلقت أنشوطة 
حولَ عنقي
فسوف يضيعون وقتهم لو أرادوا أن يروا خوفاً
في عيونِ ناظم
الزرقاء.

في فجرِ آخرِ صباحٍ لي
أنا
سوف أرى أصحابي .. وأراكِ
ثم أمضي
إلى قبري
نادماً على لا شيء .. غير أغنيةٍ لم أكملها ...

زوجتي!
طيبةَ القلب 
ياذهبية
ياعيوناً أحلى من العسل – يانحلتي !
لماذا كتبتُ لكِ
أنهم يعتزمون شنقي؟
محاكمتي بالكادِ بدأت
وهم لا يقتلعون رأس الرجلِ
كما لو كان فجلاً.
اسمعي .. انسي هذا كله.
لو بقيت معكِ بعض النقود
اشتري لي ثياباً داخلية :
عرق النسا ذبحني ثانيةً.
ولا تنسي:
زوجة السجين
يجب أن تفكرَ أفكاراً حَسنة.







ذبجة صدرية



لو أنّ نصفَ قلبي هنا يا دكتور،
فإنّ نصفه الآخرَ في الصين
مع الجيشِ، يزحفُ
صوبَ النهرِ الأصفر.
و كل صباحٍ يا دكتور،
كل صباحٍ إبانَ شروقِ الشمس
قلبي يسقطُ برصاصةٍ في اليونان.
و كل ليلٍ يا دكتور،
عندما يهجعُ السجناءُ و يخلو المشفى،
يتوقفُ قلبي عندَ بيتٍ متهدّمٍ عتيق
وسطَ إسطنبول.
و بعدَ ذلك، بعدَ عشر سنوات
كل ما أملكُ أن أهبَه شعبي المسكين
هو هذه التفاحة التي أمسكها في راحتي يا دكتور،
تفاحة واحدة حمراء:
قلبي.
و هذا يا دكتور، هو سببُ
الذبحة الصدرية -
ليسَ النيكوتين، و لا السجن، و لا تصلب الشرايين.
أتطلعُ في الليلِ من خلفِ أعمدةِ الزنزانة،
و برغمِ هذا الحملِ الجاثم فوقَ صدري
قلبي لا يزالُ ينبضُ مع أقاصي النجوم.






عن الحياة



1

أن تحيا، ليسَ بأمرٍ سهل:
يجبُ أن تحيا بجديةٍ وصرامة
كسنجابٍ، على سبيلِ المثال
أعني من دونِ أن تبحثَ عن شئٍ وراءَ أو فوقَ الحياة.
أعني أن الحياةَ يجبُ أن تكونَ كلَ شئ.

أن تحيا، ليسَ بأمرٍ سهلٍ:
يجبُ أن تأخذَ الموضوعَ بجديّةٍ
إلى درجةِ أن
تمشيَ -على سبيلِ المثالِ- ويداك خلفَ ظهرِكَ
ظهركَ مستندٌ على الجدار
أو في المعملِ
بمعطفكَ الأبيضِ ونظاراتكَ الواقية
تستطيعُ أن تموتَ من أجلِ غيرِكَ
من أجلِ أناسٍ لم ترَ وجوههم 
حتى وإن كنتَ تعلمُ أن الحياةَ هي الأكثر حقيقةً، الأكثر جمالاً.

أعني أنهُ يتوجبُ عليكَ أن تأخذَ الحياةَ بشكلٍ جديّ
إلى درجةِ أن تزرعَ أشجارَ الزيتونِ حتى لو كنتَ في السبعينَ من عمرِك 
ليسَ من أجلِ أطفالك فقط،
ولكن لأنكَّ -رغمَ خشيتكَ منه- لستَ تؤمنُ بالموت
ما أعنيهِ أنَّ الحياةَ تعني لكَ أكثر.

2

دعنا نقولُ أنّكَ فعلاً مريضٌ، تحتاجُ جراحةً
وهذهِ الجراحةُ -دعنا نقول- لا يمكنُ الحصولَ عليها
على المنضدةِ البيضاء.
حتى ولو كانَ من المستحيلِ أن لا تشعرَ بالحزنِ 
نتيجةَ موتِك المبكر بعضَ الشئِ 
إلا أننا سنظلُ نضحكُ على النكتِ المحكيّةِ
سوفَ ننظرُ عبرَ النافذةِ لنشاهدَها تمطرُ
أو سنظلُ ننتظرُ بترقبٍ
آخر نشراتِ الطقسِ
دعنا نقول أننا في الجبهة
من أجلِ شئٍ يستحقُ أن نقاتلَ من أجلهِ
هناك، بعدَ أولِ هجمةٍ، في غمارِ نفسِ ذلك اليوم
ربما سوفَ نسقطُ على وجوهِنا، موتى.
سوفَ نعلمُ بذلكَ بغضبٍ غريبٍ
ولكننا سنظلُ قلقينَ حتى الموت
بخصوصِ نتائجِ الحربِ التي يمكن أن تستمرَ لأعوام.
دعنا نقول أننا في السجنِ
على مشارفِ الخمسين من العمر
بقي لدينا ثمانية عشرة عاماً مَثلاً
قبل أن تُفتحَ الأبواب الحديدية.
سوفَ نبقى متواصلينَ مع الخارجِ
مع ناسِه وحيواناتِه، صراعِه ورياحِه
أعني مع الخارجِ خلفَ الجدران.
أعني -حيثما نكون وكيفما نكون-
يجبُ أن نحيا كما لو أننا لن نموتَ أبداً.

3

هذه الأرضُ سوفَ تغدو باردةً
نجمةً بين النجماتِ
واحدةً من صغارهنّ
ذرةً ذهبية وسطَ المخملِ الأسودِ
أنا أعني هذه، أرضنا العظيمة.
هذه الأرض سوف تغدو باردةً ذاتَ يوم
ليسَ كقطعةِ ثلجٍ
ولا كسحابةٍ ميتةٍ حتى
ولكن كشجرةِ بلوطٍ مجوفة، سوفَ تتدحرجُ عبرَ
الفضاءِ شديدِ العتمة..
يجبُ أن تبكي لهذا الآن
يجبُ أن تشعرَ بهذا الحزنِ الآن
إذْ أن الحياةَ يجبُ أن تُعشقَ لهذه الدرجةِ
لو كنتَ تنوي أن تقولَ ذاتَ يومٍ: "أنا قد كنتُ حياً"..

ترجمات: عدي الحربش


..

القصيدة الأخيرة هي قصيدتي المفضلة لناظم حكمت. منذ ترجمتها قبل عدة سنوات، و صورها و معانيها لا تغادران عقلي. بودي لو تدرس في المناهج الدراسية للطلاب. ها هنا استطاع حكمت أن يعبر بطريقة فريدة عن حب الحياة، و الوجانب الإنساني تجاهها: يجبُ أن تأخذ الأمر بجدية، إلى درجة أن تمشي -على سبيل المثال- و يداك خلف ظهرك!

يعجبني كيف يستدرك حكمت في كل مقطعٍ ليقول: "على سبيل المثال.. أعني مثلاً.. دعنا نقول".. ها هنا تحسُ بحرارةِ العاطفة تنبعث من حديثه، بالإلحاح الذي يجبره على التعبير عن الشيء العظيم الذي يعتمل في داخله: أن تزرع شجرة زيتون في آخر يوم من حياتك.

الصورة الموجودة في المقطع الأخيرة ملحمية في دراميتها. لا أستطيع أن أقرأها دون أصاب بحزن شديد. أن تتحول أرضنا الخضراء هذه إلى شجرة بلوط مجوفة خربة، تسبحُ بلا نهاية في الفضاء. قمة الجدب و العقم.

الأحد، 28 أبريل 2013

وجه فينوس و بوتشيلي


بالنسبة لي، لوحة بوتشيلي المفضلة هي ولادة فينوس The Birth of Venus ، و بالأخص، الطريقة التي رسم بها بوتشيلي وجه فينوس. أستغرب كيف صرف نقاد الفن كل ذلك الوقت على وجه الموناليزا، ليتركوا فينوس بوتشيلي.

في عصر بوتشيلي، عاشت في فلورنسا سيدة باسم سيمونيتا فيسبوتشي Simonetta Cattaneo de Vespucci أو سيمونيتا الجميلة la bella simonetta كما كانوا يطلقون عليها. كانت أكثر الفتيات جمالا، و في يوم وفاتها خرج أهل فلورنسا خلف جنازتها و هم يبكون شبابها الذي انقضى في الثانية و العشرين بسبب السل. يُقال أن سيمونيتا كانت على علاقة بجيوليانو دي ميديتشي، سليل العائلة المتسيدة في فلورنسا، تلك العائلة الشهيرة التي رعت الكثير من فناني النهضة كمايكل آنجلو و بوتشيلي، لهذا السبب كلف جوليانو الرسام بوتشيلي برسم أكثر من لوحة و بورتريه لعشيقته سيمونيتا الجميلة. 


رغم أن كثيرا من النقاد ينفون أن تكون سيمونيتا هي فينوس المتواجدة في لوحة بوتشيلي، و يعززون هذا الزعم بحقيقة أن بوتشيلي لم يرسم  لوحته هذه إلا بعد عشر سنوات من وفاة سيمونيتا فيسبوتشي، إلا أني متأكد من كونها الفينوس الموجودة في اللوحة. هناك تشابه واضح ما بين البورتريهات الموجودة لسيمونيتا و بين فينوس، كما أن كثيرا من المؤرخين يؤكدون عشق بوتشيلي لسيمونيتا، و أنه بقي يحبها حتى آخر أيام حياته، حيث مات دون أن يتزوج، و حيث أوصى أن يُدفن تحت قدمي سيمونيتا في كنيسة أوجنيسانتي بعد وفاته.

إذا كانت هذه النظرية صحيحة، فهذا يعني أن بوتشيلي رسم سيمونيتا من ذاكرته، بعد مرور عشر سنوات من وفاتها. انظر إلى أي بورتريه رُسم أثناء حياة سيمونيتا، و اخبرني ما الفرق بين هذا البورتريه و بين وجه فينوس؟





في البورتريه تظهر سيمونيتا كتمثال من الرخام، أرضية، لا تعابير، فقط تمثال يجسد الجمال الأرضي. و لكن وجه فينوس.. وجه فينوس موضوع آخر كلياً.. بعد انقضاء عشر سنوات من الفقد و من الحب غير المُبادل .. ما الذي أضافه خيال و حب بوتشيلي لوجه سيمونيتا؟

تظهر فينوس حزينة، حالمة، و كأنها تتطلع من عالمٍ آخر، و كأن الموت يفصلنا عنها (أو يفصل بوتشيلي عنها).. بينما الرياح تتلاعب بخصل شعرها الذهبية. انظر إلى الحب الذي رُسمت به خصلات شعرها المتطايرة،  الحب الذي رُسمت به عينيها الحزينتين، الحب الذي رُسمت به شفتيها الشاحبتين، كل لمسة ريشة مضمخة حتى الثمالة بالحب. 

لا أحفل بالصدّفة التي تقف عليها فينوس، لا أحفل بزفير و و لا بكلورس، و لا بالمرأة التي تنتظر فينوس على شاطئ البحر و معها وشاح، بالنسبة لي كل اللوحة تتركز في وجه فينوس.. بالنسبة لي هذه اللوحة تدور حول الحب غير المُبادل the unrequited love .



شكسبير وسيرفانتس




شكسبير و سيرفانتس، ما الذي يجمع بينهما؟
الجواب: أنطوني بورجيس. 

قرأتُ قبل شهر قصة قصيرة رائعة للكاتب البريطاني أنطوني بورجيس Anthony Burgess بعنوان: لقاء في فالادوليد A Meeting in Valladolid. القصة موجودة في مجموعة بورجيس للقصص القصيرة مزاج الشيطان The Devil's Mode. ما دفعني إلى شراء المجموعة هو تجربتي الجيدة مع بورجيس في روايته الساعة البرتقالية، و الولع الذي أشاطره بورجيس في تناوله كل ما هو تاريخي و قديم و خصوصا الفترتين الإليزابثية و الفيكتورية. في نفس المجموعة يتناول بورجيس شخصيات تاريخية عديدة، ابتداءا من شكسبير و سيرفانتس، و مروراً بآتيلا الهان، و انتهاءاً بشرلوك هولمز، حيثُ يحضرهُ أنطوني بورجيس كي يحل لغزاً موسيقياً. 

رغمَ أن سيرفانتس و شكسبير عاشا في نفس الحقبة إلا أنه لم يسبق لهما أن التقيا. سيرفانتس لم يسمع بشكسبير، و لكن شكسبير قرأ الترجمة البريطانية الأولى لكيخوتة حسب النقاد و المؤرخين. هذه الحقيقة التاريخية لم تمنع بورجيس من أن يجمع هذين الأديبين المختلفين و المتشابهين في نفس الوقت في ثنايا قصته القصيرة. لكي يفعل ذلك، يتصور بورجيس عُرساً ملكياً أقيم ما بين العائلتين الإنجليزية و الإسبانية كي يوثق العلاقات المضطربة ما بين البلدين. يخرج شكسبير و فرقته المسرحية ضمن الحاشية الإنجليزية، و يستمتع بورجيس باللعب بشخصية شكسبير، فيجعله يتقيأ بمجرد ملامسته اليابسة، و يفصّل عن عاداته و أكلاته و تصرفاته. يسمعُ شكسبير منذ البداية قصيدة لشاعر أسباني يذكر فيها كيخوته و حصانه الهزيل روسينانتي فيتساءل عن هويتهما، ثم يحضر مهرجانا للثيران، يتقدمه رجل نحيف و تابع بدين، فيشرحُ له المترجم الأسباني أن هذين هما دون كيخوته و سانشو بانزا، شخصيات انبثقت من رواية الأديب الأسباني سيرفانتس. 

يُصاب شكسبير بالدهشة و الغيرة معاً، كيف يمكن لشخصيات خيالية أن تنبثق من كتاب؟ أن يعتنقها الشعب و تصبح جزاءاً من ثقافتهم إلى درجة أن يصبح كل شخصٍ هزيل طويل دون كيخوته. يتساءل مندهشاً: ماذا تعني بالرواية؟ يشرحُ المترجم الأسباني أن الرواية صنف يختلف عن المسرحية، هي كتاب يمتدُ لمئات الصفحات، كما أنهُ يحتوي الكوميديا و التراجيديا معاً. 

تُشكِل هذه الحقائق على شكسبير، إذ كيف له أن يفهم هذا النوع الجديد من الأدب و الذي لم يُعرف بعد في إنجلترا. كما أنه يصاب بالخيبة و يحس بالعجز مقارنة مع هذا السيرفانتس الذي ألّف كتاباً يحوي العالم كله. يعرض المترجم الأسباني على شكسبير أن ينظم لقاءا بينه و بين سيرفانتس. يحدث هذا اللقاء، و يدعو سيرفانتس شكسبير إلى بيته القشيب، و الذي يعكس فقره المدقع. الطريف بالأمر أن اللغة التي يستعملها الأديبان الأوروبيان كي يتواصلا هي العربية، لغة الحضارة آنذاك، إذ أن سيرفانتس وقع أسيرا لسنوات في يد القراصنة الجزائريين، أما شكسبير فلقد سبق له أن سافر مع أمير إنجليزي إلى المغرب. لا أتذكر الحوار جيداً، و لكني أتذكر أن سيرفانتس حطّ من قدر التراجيديا و قال أن الإله كوميدي و لذلك الكوميديا فن أعلى بالنسبة إليه.

يخرجُ شكسبير مضطربا من هذا اللقاء، و يهرع إلى فرقته المسرحية ليعكر نومهم و يقضّ مضجعهم. يبدأ مجموعة من الاقتراحات و التعديلات أمام دهشة فرقته، فيقترح أن يطيل المسرحية إلى ثماني ساعات، و يقترح أن يبدأ المسرحية بهاملت (أكثر شخصياته تراجيدية) و يختمها بفالستاف (أكثر شخصياته كوميدية). في اليوم التالي، و أمام الجمهور الأسباني، تُقام المسرحية، و لكن هذا الخليط العجيب لا ينجح، فيخرج الجمهور متأففا تاركين شكسبير في قمة يأسه و حيرته. 

يرجع الوفد الإنجليزي إلى الديار، و يموت شكسبير دون أن يجد حلاً يجعله يكتب شيئاً يماثل دون كيخوته في عظمتها و شمولها، و تشاء الصدفة أن يلتقي المترجم الأسباني بأحد ممثلي فرقة شكسبير و الذي جمع مسرحيات سيده المتوفي في كتاب واحد (الفوليو الأول First Folio). يتصفح المترجم الأسباني الفوليو الضخم بمسرحياته الستة و الثلاثين، ثم يقعُ على الاكتشاف الذي كان من شأنه أن يخفف يأس و قهر شكسبير لو قيل له أثناء حياته. صحيح أن شكسبير لم يكتب مسرحية واحدة كاملة شاملة تحتوي الدنيا بتراجيديتها و كوميديتها في آنٍ واحد كالكيخوته، و لكنه صنع شيئا مثل هذا بكتابته هذه القطع المختلفة التي عندما ضُمت إلى بعضها أصبحت دنياً معقدة و متكاملة. شكسبير اخترع الإنسانية كما يحبُ هارولد بلوم أن يقول the invention of the human. لا نستطيع أن نفكر بالغيرة من دون أن نستجلب عطيل، و لا بالتردد دون أن نستجلب هاملت، و لا بالحب دون أن نستحضر روميو و جولييت، و هكذا.

لقد صنع شكسبير دنياً تنافس أو تفوق في غناها و تعقيدها ما صنعه سيرفانتس، و لكنه لم ينتبه إلى ذلك لأنه صنعه في أجزاء. كان يحتاج إلى أن يرى كل هذه المسرحيات مجموعة في الفوليو ما بين غلافي كتاب كي يقع على هذا الاكتشاف و يصل إلى رضى. 




أيضاً عالم برونو شولز




هذه القصة جميلة جداً، و لا تتحقق متعتها كاملة إلا بعد أن تتم قراءة قصة الطيور في التدوينة السابقة. ها هنا استكمال لصراع الوالد (جاكوب) بما يمثله من أحلام و جمال ضد شهوانية الخادمة آديلا و واقعية الأم. يقول شولز في قصة عرائس الخياط Tailor's Dummies متحدثا عن والده: "والدي، ذاك المرتجل الأخرق، ذاك السيّاف المحامي عن ملكة الخيال، لقد شنّ حربا ضد دفاعات و خنادق الشتاء الأجوف الفاسد. فقط الآن أستطيع أن أفهم ذاك البطل الوحيد الذي خاض بمفرده حربا ضروساً ضد الملل الأولي الغير مفهوم و الذي كان يحيط بخناق المدينة. بدون أي عون، بدون أي امتنان من قبلنا، كان ذاك الرجل الأكثر غرابة يدافع عن القضية الخاسرة للشعر."

ها هي القصة.. استمتعوا..




الصراصير

لقد حصل ما سأحكيه خلال فترة الأيام الرمادية التي تبعت انتهاء حقبة والدي البطولية، تلك الحقبة ذات الألوان الباهرة. ما تبعها كان أسابيع طويلة من الكآبة، أسابيع ثقيلة بدون آحادٍ أو عُطل، تحت سماوات مغلقة و فوق أراضٍ قاحلة. والدي حينها لم يعد معنا. الغرف في الطابق العلوي رُتبت و أُجّرت لسيدة تعمل مشغلة هاتف. من مملكة الطيور لم تبق سوى عينة واحدة: الكوندور المحشو و الذي يقف الآن فوق الرفّ في غرفة المعيشة. وسط برودة غسق الستائر المسحوبة كان يقفُ هناك، كما كان يفعل أثناء حياته، على قدمٍ واحدة، وقفة حكيمٍ بوذي، وجهه اليابس الناسك تعلوه ملامح ثابتة من اللامبالاة و الزهد. عيناه سقطتا و نشارة الخشب تتناثر من محجريه المغسولين بالدموع. وحدها الزوائد القرنية المصرية المتدلية من منقاره و العنق الصلعاء أعطيتا رأسه الكهل مسحة من الجلال الملكي.


حُلته الريشية كانت نهبة للعُث في أماكن متفرقة، ريشه الناعم الرمادي أخذ يتساقط، و هو ما كانت آديلا تكنسه مرة كل أسبوع مع غبار الغرفة. لو أمعن الواحد النظر في هذه البقع الصلعاء لرأى قماش الخيش الغليظ يرزح تحت وطأة قطع القنب التي تتفصد منه.


لقد كنتُ ممتلئاً باستياء خفيّ تجاه والدتي، ذلك أنها استطاعت أن تتجاوز موت والدي بسهولة. لم تكن تحبه أبداً –هذا ما كنتُ أعتقده- و بما أن والدي لم يتجذر داخل قلب امرأة، كان من المستحيل عليه أن يمتزج بأية حقيقة، لذا كان محكوماً عليه أن يطفو أبدياً في أطراف الحياة، في المناطق النصف حقيقية، في حواف الوجود. لم يستطع حتى أن يحظى بموت مواطن صالح، كل شيء يتعلق به يجب أن يكون غريباً و مثيراً للريبة. قررتُ في لحظةٍ مؤاتية أن أجبر أمي على الانصياع لمحادثةٍ صريحة. في ذلك اليوم (لقد كان يوماً شتائياً ثقيلاً و الضوء كان من بداية الصباح خافتاً و غسقياً) أمي كانت تعاني من الشقيقة، كانت مستلقيةً على أريكة في غرفة الضيوف.


في تلك الغرفة الاحتفالية، تلك الغرفة التي بالكاد تُزار، كان النظام يحكمُ منذ موت والدي، مفروضاً من قبل آديلا بواسطة الصقل و التلميع. الكراسي جميعها كانت مغطاة، كل الأغراض استسلمت للانضباط الحديدي الذي كانت آديلا تفرضه عليها. وحدها حزمة من ريش الطاووس كانت تنتصب وسط مزهريةٍ تعتلي مجموعة أدراج لم تكن تخضع لإرادة التصنيف و الترتيب. تلكم الريشات كانت خطرة، عناصر طائشة، تخفي تمردها، و كأنها مجموعة فتيات مدرسةٍ شقيات يظهرن بمظهر هادئ و منضبط، بينما هنّ يتفجّرن عبثاً عندما لا يراقبن. عيون تلكم الريشات لم تتوقف عن التحديق، لقد أحدثن ثقوباً في الحيطان، غامزات، مرفرات برموشهنّ، متبسماتٍ فيما بينهنّ، مقهقهات و ممتلئات حيوية. لقد ملأن الغرفة بالهمس و الثرثرة، و انتشرن كالفراشات حول المصابيح الكريستالية، مثل جمع مهرجين اندفعن يلامسن أسطح المرايا المغطاة، المرايا التي لم تعتد على مثل هذا الصخب و البهجة. لقد كن يسترقن النظر من ثقوب المفاتيح. حتى بوجود والدتي، التي كانت تستلقي فوق الأريكة و لفافة شاش تحيط برأسها، لم تستطع الريشات أن يتمالكن أنفسهنّ، أخذن يتغامزن، و يعملن إشاراتٍ بلغةٍ صامتةٍ ساهمة تمتلئ بمعانٍ خفية. بدأت انزعج من جراء هذه المؤمرة التي تُدار وراء ظهري. انحنيتُ ملامساً بركبتيّ أريكة أمي، متحسساً بإصبعيّ النسيج الناعم لملاءة والدتي المنزلية، قلتُ بصوتٍ خفيض:


"لقد كان بنيتي أن أسالك منذ وقتٍ طويل: إنه هو، أليس كذلك؟"


و رغم أني لم أشر حتى بعينيّ إلى طائر الكوندور، و الدتي خمنت مباشرةً، و انتابها الحرج، و أطرقت برأسها و عينيها إلى الأسفل. سمحت للصمت أن يستمر مدة طويلة من أجل أن أتذوق حلاوة اضطرابها، و عندها، و بصوتٍ هادئ جداً، متحكما بغضبي المتصاعد، سألتها:


"إذن ما معنى كل هذه القصص و الأكاذيب التي تنشرينها بخصوص والدي؟"


و لكن ملامحها، و التي انقبضت في البداية في فزع، سرعان ما تمالكت جأشها و استرجعت سابق انضباطها.


"أية أكاذيب؟" سألتني، رامشة بعينيها، و اللتين كانتا فارغتين، ممتلئتين بزرقة سماوية مظلمة دون أي بياض.


"لقد سمعتها من آديلا،" قلتُ لها، "و لكني أعلم أنها تصدرُ منك، و أنا الآن أريد أن أعرف الحقيقة."


شفتاها ارتعدتا بخفية، تحامت أن تنظر مباشرة في عينيّ، أما بؤبؤاها فلقد أخذا يتحركان ناحيتي طرف عينيها.


"لم أكن كاذبة،" هي قالت لتنتفخ شفتاها و لتصغرا في نفس الوقت. شعرتُ أنها تتصنع الخجل، و كما لو أنها امرأة في حظرة رجل غريب. "ما قلتهُ بخصوص الصراصير صحيح، أنت بنفسك بالتأكيد تذكر.."


أحسستُ بالربكة. تذكرتُ فعلاً غزو الصراصير، ذلك الطوفان الأسود الذي ملأ الظلمة ذات ليلةٍ بعدوٍ عنكبوتيّ. كل التشققات في الأرضية كانت ممتلئة بهمساتٍ متحركة، كل تجويف تمخّض فجأةً عن صرصار، من كل فتحةٍ انطلق تعرج براق أسود جنوني. آه من حمى الفزع الوحشية تلك إذ انبعثت من خط سوادٍ لامع على الأرض! آهٍ من صرخات الفزع التي انبعثت من حجرة والدي، قافزا من كرسي إلى آخر و المزراق وسط يديه!


رافضاً الطعام و الشراب، مكتسياً ببقع من الحمى فوق خديه، و بتقطيبة قرفٍ ترتسم بثباتٍ فوق ثغره، والدي تحول إلى مجنون. كان من الواضح أنه لا يوجد جسم بشري يستطيع أن يتحمل لمدةٍ طويلة هذا المقدار من الكراهية. مقت رهيب استطاع أن يحوّل سحنته إلى قناعٍ تراجيدي، حيثُ كانت الأحداقُ تختبئ بترقبٍ خلف الجفنين السفليين، بتوترٍ و كأنها أقواس، بسعارٍ يملأه الشك و الريبة. ما أكثر ما قفزَ من كرسيه فجأة، مصدراً صرخة مريعة، ليجري بعمىً نحو إحدى زوايا الغرفة، و ليطعن بمزراقه إلى الأسفل، و بعدها حين يرفعه، يتبين جرم صرصار مخزوق يطوّح برجليه بيأس. تخفُ آديلا حينها إلى النجدة لتأتي و تأخذ الرُمح بما يحمله من غنيمةٍ من والدي المتعب الشاحب، و لتقذف به في السطل. و لكن، حتى في ذلك الوقت، حينما كنتُ أحادث أمي، لم أستطع أن أتبين إن كانت هذه الصور قد زُرعت في عقلي بواسطة آديلا و قصصها أم أني شهدتها مباشرة بنفسي. والدي في ذلك الوقت لم يعد يمتلك قوى المقاومة تلك التي تحمي الناس الأصحاء من سحر الكراهية. بدلَ أن أن يحارب إغراء الكراهية ذاك أصبح والدي فريسة له. العواقب الوخيمة سرعان ما تتابعت. سرعان ما ظهرت أول الأعراض المريبة، لتملأنا بالخوف و الحزن. تغير سلوك والدي. جنونه، نشوة حماسه، سرعان ما انطفأت. على قسماته و في إشاراته تبدّت علائم الضمير المعذّب. بدأ يجنح إلى تجنبنا، و الاختباء لمدة أيام بلا نهاية في الزوايا و الدواليب و أسفل ريش العيدر. بصرتُ به مراتٍ عديدة و هو يحدقُ بجديةٍ في يديه، متفحصاً اتساق الجلد و الأظافر، حيثُ بدأت تظهر بقع سوداء كحراشف الصراصير.


أثناء النهار كان بإمكانه أن يقاوم بما تبقى لديه من قوة، فانخرط يعارك وسواسه، و لكن أثناء الليل، كان الوسواس يستولي عليه بالكامل. بصرتُ به ذات مرة متأخراً أثناء الليل، على ضوء شمعة مسندة على الأرضية. كان يستلقي على الأرض عارياً، ملوّثاً ببقع سواداء طوطمية، من تحت جلده كانت تتبدى خطوط أظلاعه واضحة؛ كان يستلقي على وجهه، واقعا تحت قبضة وسواس الكراهية الذي جره إلى هاوية طرقه المعقدة. تحرّك بأعضاءه المتعددة، حركات معقدة طقوسية تبيّنت فيها و الفزع يمسك بقلبي تقليداً لذاك الزحف الاحتفالي الخاص بالصرصار.


منذ ذلك اليوم اقتنعنا أن أبي سيضيع و تخلينا عنه. أخذ شبهه بالصراصير يزداد يومياً و يغدو أوضح- لقد كان يتحول واحدا منهم.


اعتدنا ذلك. بدأنا لا نراه إلا لمماً، إذ أنه كان يختفي لأسابيع بلا نهاية في دروبه الصرصورية المعقدة. صرنا لا نميزه، لقد اندمج بالكامل مع تلك القبيلة السوداء البغيضة. من يستطيع أن يقول ما إذا كان لا يزال يعيش في شق في الجدار، ما إذا كان قد فرّ ذات ليلةٍ عبر الغرف منهمكاً بمسائله الصرصورية، ما إذا كان واحدا من تلك الحشرات الميتة التي تجدها آديلا كل صباح مستلقية على ظهورها مفرجة أرجلها، و التي سرعان ما كانت آديلا تكنسها في المجرفة لتحرقها لاحقاً بقرف؟


"و رغم ذلك،" قلتُ بارتباك، "أنا متأكد أنهُ طير الكوندور هذا."


نظرت والدتي إليّ من تحت رموشها.


"يا حبيبي، لا تقم بتعذيبي؛ لقد أخبرتك ألف مرة أن والدك غير متواجد، إنه منهمك بالسفر في أرجاء البلاد: لقد حصل على وظيفة تاجر جوّال. أنت تعلمُ أنه يرجع أحيانا إلى المنزل أثناء الليل، ليغادر مباشرةً قبل طلوع الفجر." 



هل تذكرون المقارنة التي عقدتها ما بين كافكا و شولز؟ ها هو جاكوب يتحول إلى صرصار كما تحول جريجو سامسا إلى صرصار. الفرق بين التحولين هو الفرق ما بين الكاتبين. تحول سامسا في بداية القصة، تحول جاكوب في نهايتها. تحول سامسا غير مفهوم و لا مبرر كالحياة تماماً، تحول جاكوب نتيجة طبيعية لهزيمة الشعر و الأحلام أمام واقع الحياة المادية و الشهوات. تحول سامسا يملؤك قلقاً، تحول جاكوب يملؤك حزناً. كم أتمنى لو أقع على بيوغرافيا وافية عن حياة برونو شولز و العلاقة الحقيقية التي كانت تربطه بأبيه. لقد جعل من والده رمزا أسطورياً لكل ما هو جميل و متعالٍ.


عالم برونو شولز السحري





هل سبق أن سمعت ببرونو شولز؟ أنا متأكد أنك لم تفعل. اطمئن، العيب لا يعود إليك، و إنما إلى المترجمين العرب، و الذين غالبا ما ينشغلون عن ترجمة الأجود بالرديء، بل إن مترجمي اللغة الإنجليزية يشاركونهم بعض هذا الذنب، و لولا نسخة إنجليزية يتيمة وجدتها بالصدفة في مكتبة بيع كتب مستعملة في سياتل لما دخلت عالم برونو شولز الساحر. لو سألتني عن أفضل كتاب القصة القصيرة قبل شهرين، لربما أجبت: بورخيس، بو، غوغول، كافكا، عدي الحربش.. إلخ.. أما الآن، فيستحيل أن أذكر القائمة دون أن أضع على رأسها هذا البولندي اليهودي.

كثير من النقاد يحب أن يعقد مقارنة بين شولز و كافكا، فالإثنان يهوديان، و الإثنان يكتبان بطريقة ساحرة غريبة ينعدم فيها الخط الفاصل بين الحقيقي و الفانتازي، و الإثنان مولعان بالكتابة عن أبيهما، الشخصية الأهم في حياتهما و أدبهما. لكن، شتان ما بين أدبي كافكا و شولز، فبينما يتعاطى كافكا مع الحاضر و المستقبل بكل ما يحملانه من قلقٍ و توجسٍ و عدم يقين، ينشغل شولز بالكتابة عن الماضي، و تحويل ذكرياته إلى ما يشبه الميثولوجيا الخاصة به. الوالد عند كافكا هو رمز السلطة و التجبر، أما بالنسبة لبرونو شولز، فإن والده جاكوب شخصية محبوبة يتعاطى معها بحنو، والده بالنسبة إليه شخصية دون كيخوتيه حالمة، تحاول أن تخوض حربا ضروساً ضد الحقيقة بماديتها و قساوتها و بشاعتها، شخصية درامية لأنها محكومة بالهزيمة و الانسحاق تحت ثقل المادة الضروس.

مع الأسف، لم يبق من تراث هذا الكاتب العظيم سوى مجموعتين قصصيتين، الأولى بعنوان: دكاكين القرفة the Cinnamon Shops، و الثانية بعنوان: مصحة تحت علامة الساعة الرملية Sanatorium under the sign of the hourglass. من أراد اقتناء المجموعتين يستطيع أن يبتاع طبعة دار بنجوين بعنوان: شوارع التماسيح و قصص أخرى The Streets of Crocodiles and Other Stories. قلتُ أنه لم يبق من تراث هذا الكاتب العظيم سوى هاتين المجموعتين لأن شولز قُتل بواسطة ضابط نازي من الجوستابو و هو في الخمسين من عمره، أما عمله الذي يُطلق عليه المسيح The Messiah فلقد اختفى، رغم أن بعض الرسائل تقترح أن شولز أرسل نسخة منه إلى صديقه الروائي الألماني الشهير توماس مان.

نهاية برونو شولز مأساوية بحقّ. كان شولز مدرساً في قريته، و كان يكسب لقمة عيشه من كتاباته و رسوماته. لم يسبق له أن خرج من قريته من قبل. اجتاح النازيون بولندا، و قتلوا أغلب اليهود، و لم يشفع لشولز سوى موهبته البارزة في الرسم. سمع أحد ضباط الجوستابو أن شولز رسام بارز، فاحتفظ به، و صار يحميه، و أمره أن يزيّن حائط الغرفة التي ينام فيها طفله الرضيع، و هكذا بدأ شولز يرسم و يزين الحائط بالأقزام و الجنيات و الساحرات و حوريات البحر. كان يدرك أن نهايته قريبة، و لذا أخذ يخطط للهرب قبل إنهاء الحائط، حتى إذا جاءت ليلة هربه، إذا بضابط جوستابو آخر يعترض طريقه. كان ذلك الضابط مغضباً من الضابط الذي يحمي برونو، ذلك أن الأخير قتل اليهودي الخاص به، و لذا كي ينتقم الضابط، أطلق الرصاص على برونو شولز، و أرداه قتيلاً.

حديثاً، و مع تصاعد الاهتمام ببرونو شولز، قام أحد المخرجين الأمريكين بتسجيل فيلم وثائقي يحاول من خلاله توثيق رحلته المعنية بالبحث عن الحائط الذي زينته رسوم شولز قبل مقتله. لم أر الفيلم، و لكن و حسب المقدمة المترجمة لشولز في كتابي، استطاع المخرج العثور على الحائط، و كما لو أن الأمر أشبه بالسحر، قام المخرج تحت تسيجل الكاميرا بإزاحة الغبار عن حائط قديم، لتظهر مئات الرسومات السحرية التي تنتمي إلى ريشة شولز. حصل نزاع حام على هذا الجدار، إذ تنازعت ملكيته كل من بولندا و اليهود و المخرج الأمريكي الذي اكتشفه. في الأخير، و كما هو متوقع، انتصر اليهود، لينتقل الجدار بالكامل إلى متحف إسرائيل!

مالذي يميز عالم شولز القصصي؟ شفافيته، و تماهي الحقيقي مع الخيالي فيه. لم أقرأ لشولز سوى مجموعته الأولى دكاكين القرفة، و أتطلع بشغف إلى قراءة مجموعته الثانية. المهمة التي كان شولز معنيا بها هي تحويل ذكرياته الخاصة بطفولته و عائلته إلى ميثولوجيا شخصية. هناك والده، جاكوب، الرجل الهزيل الحالم، و الذي اعتزل الحياة العملية، و صار منشغلا بتربية الطيور. هناك آديلا، الخادمة الشابة، الرمز الشهواني، و رمز السلطة النسائي، و التي كانت بقوةٍ ساحقة تخضع كل من بالمنزل و خصوصا جاكوب. في مشهد لا أستطيع أن أنساه، ينهمك جاكوب -والد الراوي- بالحديث مع شابتين يخطن الدمى، يخبرهما عن نظريته بخصوص الدمى و المنحوتات و التماثيل، و كيف أن هذه الأشكال الجامدة من المادة الخام تُحبس في عذابات هذه التعابير التي يختارونها لها. ينهمك جاكوب في شرح نظريته الغريبة، إلى أن تدخل الخادمة آديلا، ليتوقف جاكوب كطفلٍ ضُبط و هو يعمل شيئا غير مسموح، هنا تمدّ آديلا قدمها الصغيرة المكسوة بجرابها الشفيف، ليجثو جاكوب على ركبتيه مقبلاً قدمها، ثم ينصرف بانهزام. لم يصرّح شولز عن ما يرمز إليه والده و ما ترمز إليه آديلا، و لكن هذه المعركة المحتدمة بين الإثنين، هذه الهزائم المتعاقبة الحزينة لجاكوب، هذه الأشياء، هي ما تضيف السحر و الحزن إلى كتابة شولز.

ليس هذا و حسب، و إنما أيضا المكان و الزمان. عالم شولز غير تقليدي، و غير محصور. يخبرنا شولز أن والده قد يضيع في غرف الشقة العديدة أياما و أسابيع إلى أن يظهر أخيراً. شوارع المدينة تتمدد وسط الليل و تنبت دكاكين و أماكن كانت غير موجودة أثناء النهار. الرجل يرجع إلى ما يخاله بيته ليجد نفسه يدخل بيتاً مطابقا في الهيئة و لكنه يختلف عن بيته. حتى الزمن غير تقليدي، إذ أن الكتاب مقسم إلى ثلاثة عشر فصلا، ما يفترض أن يكون عدد شهور السنة، إذ أن السنة قد تتمهل أحيانا فيطول الشتاء أو الصيف، و قد ينمو أحيانا شهر ثالث عشر، شهر خديج مشوه، و كأنه أصبع ضامرة زائدة تُضاف إلى أصابع اليد الخمسة.

لو تحدثت عن افتتاني بشولز إلى ما لانهاية لن أوفيه حقه، و لذا، كي أنقل إلى القارئ فتنة نثر شولز و غرابة عوالمه، قمت بترجمة هذه القصة القصيرة من مجموعة دكاكين القرفة و اخترتها كعينة لأدبه. الترجمة سريعة و رديئة، و لكنها تظهر ما أريدُ أن تظهره من خصائص شولز النثرية الفاتنة: عالمه السحري، تداخل الحقيقي مع الفانتازي، معركة جاكوب مع آديلا، الشهوانية المتختبئة بين السطور، التعامل الشفيف مع الذكريات. اقرءوا القطعة كاملة، و ستدركون ما أعني.








الطيور


ها قد أتت أيام الشتاء الصفراء، مثقلة بالملل. الأرض المصطبغة بحمرة الصدأ غطتها قماشة الثلج المهترئة المثقبة. لم تكن هناك كمية كافية منه لتغطي كل الأسطح، و هكذا، ظهرت بعض تلك السطوح سوداء و بنية، مسقوفة بالألواح أو القش، أقواساً ممتدة من العليّات المغطاة بالرماد، كل واحدة تماثل رئةً سوداء متفحمة تعجُ بها الرياح الشتوية. مع كل فجر تظهر أكوام من المداخن الجديدة، انبثقت في ساعات الظلمة، حيثُ تنفخ عبرها الرياح الليلية، و كأنها الأنابيب السوداء لأورغان الشيطان. ضربات منظف المداخن لم تكن كافيةً كي تتخلص من الغربان التي تغطي كل مساء أغصان الأشجار المتحلقة حول الكنائس، وكأن الغربان أوراق سوداء حية، سرعان ما ستطير مرفرفة، لتعود مرة أخرى، كل واحد متمسكا بمكانه السابق على الغصن، لتبتعد أخيرا عند الفجر، كموجات رماد، كقطع وساخة، متموجة فانتازية، مسودّة بنعيقها غير المنقطع خيوط الضوء الصفراء العفنة. بدأت الأيام تتصلب بفعل البرد و الملل و كأنها أرغفة خبز من السنة الماضية. الواحد بدأ يقطعهنّ بسكاكين مفلطحة، بدون شهية، بلا مبالاة كسولة.

انقطع والدي عن الخروج منذ فترة. صار ينشغل بحشو المواقد و المداخن، و يستغرق بتأمل ذلك الكنه المخادع للنار. انهمك كذلك بتجربة الطعم المالح المعدني ذي الرائحة النفاذة التي تشبه رائحة السلامندر الشتوي الذي يلعق الرماد من حنجرة المدفأة. أخذ يتطوع بحماس لكل أنواع الأعمال الخاصة بترميم الأجزاء العلوية من الغرف. في ساعات النهار، يستطيع الواحد أن يراه مقرفصا فوق قمة سلم، يشتغل في إصلاح شيء معلق بالسقف، في عرى النوافذ الطويلة، في الأوزان و السلاسل الخاصة بالقناديل المعلقة. متبعاً عادات صابغي البيوت، كان يستعمل سلماً يتكون من درجتين إثنتين، من هناك، كان يحسُ بسعادة غامرة و هو يطل من أعلى، قريباً من السماء و الأغصان و الطيور المطلية على سقف الغرفة. بدأ يبتعد أكثر و أكثر عن المشاغل اليومية العملية. عندما تحاول أمي القلقة و غير السعيدة على حالته أن تصرف انتباهه تجاه الشغل و المستحقات الشهرية، كان يستمع إليها بعقل غائب، و القلق يظهر على محياه الساهم. أحياناً، كان يوقفها بإشارة من يده، ليعدو إلى زاوية الغرفة، حيثُ يلصق أذنه إلى أحد الشقوق في الأرضية، ليرفع السبابة في كلتا يديه، مؤكداً خطورة البحث الذي يقوم به، و بعدها يستغرق في الإنصات بانتباه. في ذلك الوقت، لم نكن نفهم العلة الحزينة التي انبثقت منها كل هذه التطرفات الغريبة، ذاك المركب البغيض الذي كان ينمو رويداً داخله.

أمي لم تكن تملك أي تأثير عليه، و لكنه كان يولي الكثير من الاحترام تجاه الخادمة آديلا. كان تنظيفها لغرفته طقسا مهما عظيما بالنسبة إليه، كان حريصاً دائماً على التواجد أثناءه، ليراقب جميع تحركات آديلا بمزيج من القلق و الإثارة المستمتعة. كان يولي جميع أعمالها معانٍ رمزية ذات دلالة عميقة. عندما تبدأ الفتاة –بحركات فتيّة قوية- بمجاذبة المكنسة الطويلة و تحريكها فوق الأرضية، والدي كان بالكاد يتنفس. الدموع تبدأ بالتساقط من عينيه، ضحكات مخنوقة تشوه وجهه، أما جسده فلقد كان يهتز بالكامل مأخوذاً بتقلصات النشوة. لقد كان ضعيفاً و حساسا إذا ما تعلق الأمر بالدغدغة إلى درجة الجنون. كان يكفي لآديلا أن تحرك أطراف أصابعها أمامه مصطنعة الدغدغة، ليركض كالمذعور عبر جميع أبواب الغرفة، صافقا وراءه الباب تلو الآخر، إلى أن يسقط أخيراً فوق سرير أبعد غرفة، مهتزا و متشجنا من الضحك، متخيلاً الدغدغة التي لم تكن محتملة من قبله. من أجل ذلك، كان سلطان آديلا على والدي بغير حدود.

في تلك الفترة، بدأنا نلاحظ للمرة الأولى شغف والدي العجيب بالحيوانات. لقد كان مزيجاً من عاطفتي الصياد و الفنان داخله، و لربما كان كذلك تعاطفا بيولوجيا ذا صفة أعمق من قبل مخلوق ما تجاه أشكال أخرى من الحياة، أشكال يحسُ بالانتماء إليها إلا أنها مختلفة، نوعا من التجريب في المناطق الغير المكتشفة من الوجود. لم تتخذ الأمور ما اتخذته من طبيعة معقدة ملتوية آثمة إلا في المراحل الأخيرة، و هو موضوع من الأفضل أن يبقى مطمورا بعيدا عن ضوء النهار.

لقد بدأ كل الأمر بمشروع حضّانة بيض الطيور.
بمزيج باهض من الجهد و المال، قام والدي باستصدار بيض طيور من هامبورج أو هولندا أو بعض الحدائق الحيوانية من أفريقيا، قام بذلك و وضع البيض في حضانة دجاجات هائلة الحجم من بلجيكا. لقد كانت عملية مثيرة استأثرت باهتمامي أنا أيضاً- تفقيس هذه الكتاكيت و الأجنة، و التي كانت تشوهات حقيقية و مريعة من كل الأشكال و الألوان. لقد كان من الصعب أن تحزر من خلال هذه الوحوش ذات المناقير الخلابة التي كانت تفتحها بالكامل بمجرد ولادتها، مزقزقة بجشعٍ لتظهر مؤخرات حناجرها، هذه السحالي ذات الأجسام العارية الضعيفة المحدودبة، أقول أنه كان من المستحيل أن تحزر مستقبلها، أيها سيغدو الطاووس و أيها الدرّاج و أيها القنبرة و أيها الكندور. متروكةً وسط الظلام في هذه السلال المبطنة بالقطن، أخذت عوائل التنين هذه تتمايل بأعناقها الهزيلة محشرجةً دون صوت عبر حناجرها الغبية، ليدخل والدي متمايلا بين الأدارج، لابسا مئزرته الخضراء، و كأنه بستاني يعمل في مستدفأ صبّار، ليصنع من اللاشيء هذه الزقازيق العمياء، هذه الفقاعات المتفجرة حياةً، هذه البطون العنينة التي لا تستقبل من الخارج إلا ما يأتي على شكل أكل، هذه التبرعمات على سطح الحياة، تتسلق بعمىً تجاه الضوء. بعد بضعة أسابيع، عندما تفتحت هذه البراعم العمياء من المادة، امتلأت الغرف بالضجة الساطعة و الزقزقة المتصاعدة لهذا الفصيل الجديد من الساكنين. جثمت الطيور فوق مخمل الستائر، فوق دواليب الملابس، بدأت تعشعش فوق كومة الأغصان المعدنية و اللفائف الزجاجية للمصابيح المعلقة.

كلما انكبّ والدي على مجلداته الأورنيثيولوجية الخاصة بعلوم الطير، كلما أخذ يتطلع و يدرس صحائفها الملونة، كانت هذه الخيالات الريشية تبدو و كما لو أنها تخرج من الصفحات لتملأ الغرف بالألوان، ببقع من القرمز و أشرطة الياقوت و الزنجار و الفضة. في وقت الإطعام، كانت تصنع سريراً مبهرجاً متموجاً على الأرض، سجادة حية من شأنها عندما يدهمها زائر دخيل أن تتمزق و تتفرق لتتحول إلى مئات القطع المحلقة في الهواء لتستقر أخيراً عاليا تحت السقف. أتذكرُ بصفة خاصة طائر كوندور ينتمي إلى فصيلة العقبان، طائراً ضخماً بعنق جرداء، وجهه مجعّد و متدلي. لقد كان زاهداً ناحل الجسم، شيئا يماثل العابد البوذي، ممتلئاً بكرامة عصية متمنعة، متقيداً بالطقوس القاسية الخاصة بأبناء جلدته. كلما جلس قبالة والدي، ساكناً، على هيئة التماثيل الفرعونية، و عيناه مغطيتان بالماء الأبيض، مما يحدو به أن يحركهما جانبا ليغلق نفسه بالكامل على تلك الهيئة المتأملة الوحيدة- كلما فعل ذلك، خيّل لي أنه شقيق أكبر لوالدي. جسمه و عضلاته تبدوان من نفس المادة، لديه نفس الجلد القاسي المجعد، نفس الوجه العظمي الجاف، نفس المحجرين المتصلبين العميقين. لم أكن أستطيع مقاومة ذاك الانطباع –كلما حدقت به و هو نائم- أنني موجود في حضرة مومياء- مومياء مجففة منكمشة لوالدي. أنا أؤمن أن والدتي أيضا لاحظت هذا الشبيه العجيب، رغم أننا لم نناقش الموضوع ألبتة. إنه لمن المهم ملاحظة أن الكوندور كان يستعمل نفس المبولة الخاصة بوالدي.

رغم تفقيس المزيد و المزيد من الفصائل، لم يحس والدي بالاقتناع، مما حدا به أن يرتب زواجاتٍ بين الطيور المختلفة في العليّة، بل بدأ يرسل الخاطبات، و قام بتقييد الطيور المتلهفة الجذابة إلى الشقوق و التجاويف تحت السقف، و سرعان ما غدا سقف منزلنا –ذاك السطح المزيّق المسقوف- سرعان ما غدا فندقاً للطيور، سفينة نوحٍ قصدتها جميع أنواع المخلوقات الريشية من بعيد. حتى بعد زمن طويل من القاصمة التي حلت بجنة الطيور تلك، استمر هذا التقليد سائراً في العالم الطيري، و كلما حلت الهجرة الربيعية، إذا بسقفنا يُحاصر بواسطة فصائل كاملة من طيور الكركي و البجع و الطواويس و غيرها من الطيور. و لكن، و بعد فترة قصيرة من البريق، إذا بالمشروع بكامله يأخذ منعطفاً حزيناً.

سرعان ما أصبح من اللازم أن ينتقل والدي إلى غرفتين أعلى المنزل كانتا تُستخدمان في خزن الأغراض. كان بإمكاننا أن نسمع وقت الفجر الضجة المتداخلة من أصوات الطيور. الجدران الخشبية لغرف العليّة –بمساعدةِ رنين المساحة الفضاء تحت القبة- صوتت بالهدير و الرفيف و النعيق و الغرغرة و بصيحات الجماع المنتشية. لأسابيع عديدة، اختفى والدي و لم يعد بالإمكان العثور عليه. كان نادراً ما ينزل إلى الشقة، و عندما يفعل، كنا نلاحظ أنه قد انكمش، أنه قد أصبح أصغر و أنحف. أحيانا عندما ينسى نفسه، يقوم بالنهوض من كرسيه مقابل الطاولة، ليبدأ بالرفرفة و تحريك ذراعيه و كما لو أنهما جناحين، بينما يصدر صوت نداءٍ طيري، لتغطي عينيه سحابة من الماء. بعدها، و كما لو أنه انحرج، يقوم بمشاركتنا الضحك و تحويل الحادثة بأكملها إلى شيء يشبه النكتة.

في أحد الأيام، أثناء أعمال التنظيف الربيعية، ظهرت آديلا فجأة في مملكة والدي الطيرية. توقفت عند المدخل، لوحت بيديها في وجه الرائحة النتنة التي كانت تملأ الغرفة، أكوام البراز المتناثر على الأرض، الكراسي و الطاولات. بدون أي تردد، قامت بفتح الشرفة على مصراعيها، و بمساعدة مكنستها الطويلة، تمكنت من بعث كامل الكتلة الطيرية إلى الحياة. سحابة وحشية من الريش و الأجنحة تصاعدت مستنجدة، أما آديلا –و كما لو أنها إلهة غضب رومانية تمسك بعصاها العاجية- فلقد رقصت رقصة الدمار. حاول والدي –و هو يرفرف بهلع بذراعيه- أن يرتفع بنفسه عبر الهواء كي يرافق قطعيه الريشي. رويدا، رويداً، بدأت سحابة الأجنحة بالانحلال حتى لم يبق في النهاية سوى آديلا في ساحة المعركة، و هي تلهث مقطوعة النفس، و كذلك والدي، و الذي الآن –و بعد أن امتقع وجهه بنظرة قلق ذليلة- صار بإمكانه أن يتقبل الهزيمة الكاملة.

بعد لحظات، نزل والدي للأسفل- رجلاً محطماً، ملكا مخلوعا منفيّاً خسر عرشه و مملكتَه.


ترجمة: عدي الحربش
May 15 / 2011